جاء في صحيفة نداء الوطن-
منذ أوقف المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار تحقيقاته في 6 شباط الماضي نام الملف في أدراج العدلية. ولكن القضية لم تنم. من محكمة لندن إلى محكمة هيوستن في الولايات المتحدة الأميركية إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمطالبة بلجنة تحقيق دولية، خطوات تساهم في إبقاء القضية حيّة ومتحرّكة ولكن كل ذلك لا يُغني عن تحقيق البيطار.
لم تكن مضت ساعات قليلة على انفجار كميات نيترات الأمونيوم في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت مساء 20 آب 2020 حتى بدأت تتسرّب المعلومات حول مسار هذه الكمية من المواد المتفجرة. قبل أن تُستكمل عمليات الإنقاذ، وقبل أن تنجلي صورة الكارثة الكبيرة، وقبل أن تتولى الأجهزة الأمنية والقضائية مهمة التحقيق الرسمي، كان هناك من بدأ يتحدّث عن رحلة الباخرة «روسوس» من أحد موانئ جورجيا إلى ميناء بيروت.
بدا وكأنّ جهات كثيرة في العالم كانت تعلم. فجأة ظهرت معلومات عن مالك الباخرة المفترض، رجل الأعمال الروسي إيغور غريتشوشكين، الذي قيل إنه يعيش في قبرص وتحوم حوله شبهات، وعن قبطانها الروسي، بوريس بروكوشيف، الذي ظهر فجأة على وسائل الإعلام وبدأ يدلي بتصريحات تتعلّق برحلة الباخرة وبمعاناته في مرفأ بيروت بعد احتجازه مع طاقمه على متن الباخرة. وفجأة أيضا بدأت المعلومات تنكشف، حتى من داخل لبنان، حول الجهة التي استوردت هذه الكمية الكبرى من النيترات (2750 طناً)، وحول الطريقة الملتبسة التي دخلت فيها إلى مرفأ بيروت، وحول القرار الملتبس بالحجز عليها، ثم بإفراغ حمولتها ونقلها إلى العنبر رقم 12.
عملية أمنية وأجهزة مخابرات
ليس من الطبيعي أن تخرج هذه الكمية في أيلول 2013 من معامل النيترات في جورجيا وأن تحمّل على باخرة متهالكة وأن تبحر من أحد موانئها (باتومي) على البحر الأسود، وأن تتوقف في اسطنبول في تركيا ويتم تبديل طاقمها والإستعانة بطاقم جديد تم إحضاره على عجل لإكمال المهمة وكأنّ هناك من ينظّم كل هذه العملية، من دون أن تكون مراقبة من أجهزة مخابرات عالمية تهتمّ بمتابعة هذا النوع من الأنشطة التي تتعلّق بالأمن العالمي وبسلوك منظمات إرهابية ودولية تريد أن تستخدم هذه الكميات الكبرى من المواد المتفجرة.
فالمسألة لم تكن تتعلّق بتجارة عادية وبشحنة قمح، بل بعمل أمني. في تلك المرحلة كان النظام السوري قد خضع للتهديدات الأميركية بعد اتهامه باستخدام المواد الكيماوية في قصف أهداف معادية له داخل سوريا. وفي 20 أيلول 2013 سلّمت دمشق لائحة كاملة بترسانتها الكيماوية إلى منظمة حظر الاسلحة الكيماوية، ملتزمة بذلك مهلة الأسبوع التي حددها الاتفاق الروسي الأميركي حول تفكيك هذه الترسانة التي يملكها النظام السوري.
هذا الإلتزام السوري جاء نتيجة اتفاق أعلنه في 14 أيلول وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، بعد مباحثات استمرّت ثلاثة أيام في جنيف، تفادياً لتنفيذ التهديد الأميركي بقصف أهداف داخل سوريا. بعد ذلك عمد النظام السوري إلى تسليم هذه المواد تباعاً. رحلة باخرة الأمونيوم تزامنت مع هذا التطور. بعد تفجير مرفأ بيروت خرجت استنتاجات كثيرة تقول إنّ النظام السوري أراد أن يستبدل ترسانته الكيماوية بترسانة من مواد متفجرة أخرى. كل ذلك يطرح علامات استفهام حول دور روسي معيّن في رحلة الباخرة والنيترات من مرفأ باتومي إلى مرفأ بيروت قبل عامين من إعلان التدخل الروسي المباشر في الحرب السورية في 30 أيلول 2015.
صور جوية ولا نتائج
في 22 تشرين الثاني 2021 أعلنت روسيا أنّها سلمت لبنان صوراً جوية لمرفأ بيروت التقطتها الأقمار الصناعية قبل وبعد الإنفجار، ولكن منذ ذلك التاريخ لم يعرف ماذا أضافت هذه الصور على التحقيق. وعلى الأرجح أنّها لم تضف شيئاً. صحيح أنّ التحقيق العدلي اللبناني ربما كان ينتظر مثل هذه الصور، ولكن لا يمكن الجزم بأنّ هناك أقماراً صناعية كانت تراقب مرفأ بيروت عند حصول الإنفجار لتصوِّرَه، وهذا احتمال ضعيف أن يحصل بالصدفة، إلا إذا كان هناك من ترصّد هذا التفجير ليصوّره، وبالتالي يكون هذا التفجير مفتعلاً.
وإذا كان مثل هذا الأمر حصل فعلاً، فإنّ أي جهة لن تقوم بتسليم هذه الصور لأنها تكون من ضمن إطار عمل أمني استخباري لا يمكن الإعلان عنه. ولذلك كان من الأفضل أن تعمد روسيا، لو كانت متجاوبة، إلى تسليم مواطنَيها المتهمَين بنقل النيترات إلى بيروت. وإذا كان هذا الأمر من ضمن عمل أمني روسي سوري فكيف يمكن أن تتجاوب موسكو؟ وبالتالي هذا ما يجعل التحقيق المحلي عاجزاً عن اختراق هذا الجانب من القضية.
الـFBI والنيترات
إضافة إلى ذلك، حتى إذا كانت أجهزة مخابرات عالمية، أميركية أو بريطانية مثلاً، تعلم بمسار الباخرة والنيترات فلا يمكن أن تسلِّمها إلى المحقق العدلي في لبنان ولا حتى إلى أي محقق دولي آخر، في حال انتقلت القضية إلى لجنة تقصي حقائق أو إلى لجنة تحقيق دولية. كل ما حصل في هذا المجال كان يتعلّق بحضور محققين من الـ»أف بي أي» إلى مرفأ بيروت، بموافقة السلطات اللبنانية، وتسريب معلومات، قيل إنّهم توصلوا إليها، وتفيد أنّ كميات النيترات التي انفجرت كانت بحدود الـ500 طن من دون توضيح الطريقة التي تم التصرف بها بالكميات المفقودة.
وسط هذا التعتيم العالمي كان على المحقق العدلي فادي صوّان أن يبدأ التحقيق من ضمن ما توفّر له من معلومات محلية ومن متهمين محليين. وكان على خلفه القاضي طارق البيطار أن يكمل التحقيق أيضاً من حيث وصل سلفه صوّان قبل أن يواجه دعاوى الرد والتهديدات، ويشتبك مع مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، ويدّعي عليه ويستدعيه إلى التحقيق، ليردّ عويدات عليه بدعوى مماثلة ويهدّد بتوقيفه بعد امتناع الأجهزة الأمنية عن تلبية طلبات البيطار الذي أعلن في 6 شباط وقف التحقيق حتى إشعار آخر.
التحقيقات الدولية
خلال هذه المرحلة طرأت تطورات تتعلق بالمدى الدولي من التحقيق:
• 67 نائباً وأهالي ضحايا تفجير المرفأ رفعوا في 13 أيلول الحالي للأمم المتحدة عريضة لإنشاء لجنة تقصي حقائق دولية بعد يومين على دعوة مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، إلى ضرورة التحرك من أجل تحقيق دولي في انفجار مرفأ بيروت، منددّاً بغياب المساءلة اللبنانية عن المتورطين في هذه القضية. ويتزامن هذا الطلب مع بدء أعمال الجمعية العموميّة للأمم المتحدة في دورتها الـ78.
• في 6 أيلول كشفت صحيفة Challenges الفرنسية، أنّ محكمة هيوستن في ولاية تكساس الأميركية، قرّرت بدء التحقيق بتفجير مرفأ بيروت، بناء على شكوى قدّمها عدد من المتضرّرين اللبنانيين – الأميركيين، ضدّ شركة Spectrum للتنقيب عن النفط، التي كانت عملت في لبنان بطلب من وزارة الطاقة، وطلبت استئجار الباخرة «روسوس» لنقل معدات خاصة بها إلى الأردن. وبناء على هذا الطلب دخلت الباخرة إلى مرفأ بيروت ومُنعت من الخروج منه.
• في 23 شباط 2023 أصدرت محكمة العدل العليا البريطانية حكماً لصالح الضحايا الذين يمثّلهم مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت والوزير السابق كميل أبو سليمان وعدد من المحامين، ضد الشركة الإنكليزية SAVARO Ltd، في الدعوى المدنية التي أُقيمت بحقها في 2 آب 2021، بعدما تمكّن المكتب من وقف عملية التصفية التي أطلقتها الشركة في أوائل العام 2021 للتنصل من مسؤوليتها.
وفي 27 حزيران أمرت المحكمة هذه الشركة بدفع أكثر من 800 ألف جنيه إسترليني كتعويضات للضحايا، في أول حكم من نوعه بشأن الانفجار. ومن شأن القرار القضائي أن يعطي دفعاً للمحقق العدلي في بيروت، ولإثبات وجهة شحنة نيترات الأمونيوم المتسببة في الانفجار إنْ كانت موزمبيق أم لبنان، كما من شأن هذا القرار أن يكشف لصالح من أرسلت هذه الشحنة، ومن هي الجهات التي ساهمت في تخزينها بالمرفأ منذ سنة 2013. وكشف المحامي أبو سليمان أنّ صاحب الشحنة من الجنسية الأوكرانية ويعمل منذ سنوات في تجارة نيترات الأمونيوم، وأنّ هويته باتت مكشوفة لدى المحقق العدلي طارق بيطار.
لا يمكن فصل التحقيقات الدولية على مختلف المستويات عن التحقيق المحلي فهي لا يمكن أن تحلّ محله بل يمكن أن تكمّله. وهو لا يمكن أن يكتمل من دونها، سواء أكانت من محكمة بريطانيا أو من محكمة هيوستن، أو من خلال لجنة تقصي حقائق أو لجنة تحقيق دولية. فهذه اللجنة مثلاً يمكن أن تشكّل ملاذاً آمنا لملف التحقيق الذي توصّل إليه القاضي البيطار والذي واجه الضغوط وامتنع عن تسليمه لمن طالب بتنحّيه، ويمكن أن تشكّل متابعة لهذا الملف طالما تمنع التدخلات والضغوط على البيطار من متابعة النظر في هذه القضية بحيث يصير تحريكها قضية عالمية غير قابلة للتعرض للضغوط أو لوقف مسارها.
المصدر: نداء الوطن