«يُرجى ربط الأحزمة، سوف نصل بعد قليل». ربما هذه كانت آخر عبارة جوّيّة يسمعها ركّاب طائرة «بوينغ 707» المدنية قُبيل هبوطها في مدرج مطار القليعات. كان ذلك في الخامس من شهر تشرين الثّاني 1989. تاريخ لن ينساه اللبنانيون. إذ شهد انعقاد جلسة إستثنائية لمجلس النوّاب، أضفت إلى إعادة انتخاب الراحل حسين الحسيني رئيساً له، إقرار وثيقة الطائف، وانتخاب النائب رينيه معوّض رئيساً للجمهورية. هذا الحدث السياسي الكبير الذي شكّل مرحلة إنتقالية مفصلية في مسيرة الجمهورية، سلّط الضوء على أهمية هذا المطار وقدرته على استقبال الطائرات الضخمة. لكن مع استشهاد الرئيس المنتخب ومنحه اسمه ليصبح «مطار رينيه معوّض» بناءً على قرار مجلس الوزراء الصادر في 11/12/1989، خفتت نجوميته، وطوي مجدّداً في سراديب النسيان.
بين الفينة والأخرى، ترتفع المطالبات بإعادة تشغيل مطار القليعات. يطلّ إلى الواجهة في المعارك الإنتخابية، أو مع كلّ خضّة أمنية أو رصاصة طائشة أو خطف زائر أو سرقة يتعرّض لها مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، أو على طريقه. كما رمته المنطقة المحيطة به والكثافة السكانية والأبنية العشوائية المعتدية، وروائح الإستقبال، في دائرة المخاطر وتهديد السلامة العامة. فربط الأحزمة لن يُفيد. وشكّلت أحداث 7 أيار 2008، التي ارتبطت به وما رافقها من غزو عسكري لبيروت، دافعاً أمنيّاً وسياسيّاً للبحث عن مطارٍ آمنٍ رديف.
«الإعتدال» على يمين المطار
فيما تتراكم طبقات الجليد على ملف الإستحقاقات الرئاسية والسياسية رغم ارتفاع درجات الحرارة من جهة، واشتعال الموسم السياحي مع بدء توافد أفواج السيّاح إلى لبنان عبر مطار بيروت المزدحم، أتى إعلان «تكتل الإعتدال الوطني»، فتح معركة مطار القليعات، ليحرّك مشاعر اللبنانيّين وآمالهم في تحقيق حلمهم، بأن يشهدوا في زمنهم مطاراً جديداً.
«أعطينا الحكومة مهلة شهرين. إذا كان الجواب إيجابيّاً فسنحيّيها، أمّا إذا كان سلبيّاً، فنحن نتحضّر لهزّة شعبية وتحرّكات كبيرة». هذا ما أكّده نائب الكتلة وليد البعريني في حديث لـ»نداء الوطن». واعتبر أنّ «كلّ الحجج والموانع السياسية التي كان يطلقها البعض، لم تعد مبرّرة، خصوصاً مع عودة العلاقات السعودية – الإيرانية – السوريّة». ورأى أنّ التوافق الإقليمي الحاصل، يجب الإستفادة منه. اليوم لم نعد نسمع كما في السابق عن خطورة الأجواء السوريّة، وصعوبة الطيران فوق أجوائها». أمّا عن مخاوف «حزب الله» وعدم رغبته في فتح أي مطار أكان في القليعات أم حالات أم في أي منطقة لبنانية خارج سيطرته و»عيونه»، فكشف أننا «اجتمعنا كنوّاب عكّار – الضنيّة – المنية، مع زملائنا عن بعلبك الهرمل (في الحزب)، داخل المجلس النيابي، وسمعنا منهم مواقف إيجابية، أقلّه ظاهريّاً». ولا يخفي البعريني اعتماد سياسة الضغط على الكتل النيابية التي كانت لها هواجس معيّنة، لافتاً في الإطار ذاته إلى أنّ التواصل مع كافّة النواب سيكون داخل البرلمان». كما أشار إلى أنّ التكتل في صدد تحضير جولات على المرجعيات الروحيّة لما تشكّله من رافعة وطنية ومعنويّة.
وعن اجتماع «الإعتدال» مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وما نتج عنه، أوضح البعريني «أننا سلّمنا الحكومة الملفّ التقني الذي تمّ إنجازه قبل يومين، وأبرز ما وعدنا به، هو اعتماد مطار القليعات بدل بيروت، كمهبط للشحن، و»الشحن العارض» أي استقبال الرحلات التي تضمّ وفوداً ومجموعات هدفها السياحة الدينية، نظراً لما يحتويه الشمال من أماكن مقدّسة متعدّدة وغنية، كوادي قنّوبين وإهدن وغيرها من المناطق».
سجيع عطية
هذه المواقف شدّد عليها عضو الكتلة النائب سجيع عطية، إذ رأى أن «القضية بحاجة إلى حسم، لأنّ «مطار رينيه معوّض» هو حاجة وطنية واقتصادية وإنسانية. وما نشهده من إقبال كثيف على مطار بيروت، يحتّم علينا فتح مطار القليعات، خصوصاً أن كل العناصر والشروط الفنيّة واللوجستية حاضرة، مع جهوزية القطاع الخاص للإستثمار واستعداد العديد من الدول للمساعدة». وسأل: «أيعقل أن دولة أصغر من لبنان كجارتنا قبرص، لديها 4 مطارات ونحن ليس لدينا سوى مطار واحد؟». تحقيق حلم المطار الذي يمكنه أن يبدّد الحزن عن ليالي الشمال الغارق في دوّامة الإهمال المزمن، يضعه عطية في خانة النضال، قائلاً إن ما «يميّز المعركة اليوم عن المطالب السابقة، هو الجديّة والإصرار، خصوصاً بوجود تكتّل نيابي شمالي عريض».
ودعا إلى «عدم قتل الفرص. المنطقة تشهد تحوّلات إيجابية. علينا الإستفادة من الانفتاح العربي – العربي، وعودة العلاقات بين دمشق والرّياض»، لافتاً إلى أنّ «الساحل السوري ليس لديه أي مطار مدني. ما يعني أن مطار القليعات قد يعوّض هذا النقص». وختم النائب عطية بالتطرّق إلى «بعض العراقيل الإدارية التي نعمل على تذليلها، خصوصاً لجهة عدم وجود هيئة ناظمة للمطار. ورأى أن الحلّ الموقت والعملي، هو اعتبار مطار القليعات امتداداً لمطار بيروت، لحين تشكيل الهيئة».
تاريخ المطار المنسي
تعود القصّة إلى شركة «نفط العراق الإنكليزية» (IPC) (المعروفة قبل عام 1929 باسم شركة البترول التركية)، التي شيّدت ذاك المطار العكّاري الشمالي عام 1934 كي تستخدمه الطائرات الصغيرة التابعة للشركة في أعمالها وفي نقل الموظفين بين لبنان والدول العربية لا سيما العراق. وفي العام 1966، تسلّمته الدولة اللبنانية وبدأت تطويره وتأهيله مطاراً عسكرياً، ليحوّله الجيش اللبناني الى قاعدة عسكرية، ليحمل اسم «قاعدة القليعات الجوية».
ويروى أيضاً وفق معلومات متداولة ومنشورة بشأن تاريخ المطار، أنه ارتبط بحادثة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) عندما اضطرّت إحدى الطائرات الفرنسية للهبوط في تلك المنطقة، جرّاء عطل تقنيّ. ولكي تستطيع الإقلاع مجدّداً، تمّ استحداث مدرج من قبل الجيش الفرنسي بمعاونة الأهالي.
دراسات لم تدخل حيّز التنفيذ
في دراسة وضعتها «المؤسسة العامة لتشجيع الإستثمارات في لبنان» (إيدال) عام 1999، أشارت إلى أنّ «مشروع تطوير مطار القليعات، هو من ضمن توجه عام يهدف لتحقيق الإنماء المتوازن في المناطق اللبنانية ويشمل المشروع منطقة حرّة ومناطق نشاطات اقتصادية، وهو يخدم جملة النشاطات الإقتصادية المختلفة (تجارة، صناعة، سياحة) في شمال لبنان».
ورأت دراسة وضعتها وزارة الأشغال العامة، أنّ مشروع التطوير في القليعات، يوفّر نمواً في مجالات التجارة والزراعة والصناعة والسياحة للبنان وللمنطقة بشكل خاص، كما يستطيع توفير أنشطة سياحية ورياضية والجمع بين الرياضة الساحلية والشتوية في المنطقة (الأرز والبحر)، كما أنَّ قرب المشروع من أماكن سياحية وأثرية مهمّة وموقعه المباشر على ساحل البحر المتوسط بواجهة ساحلية تصل إلى طرابلس مع إمكان ربطه بخط سكة الحديد طرابلس العبودية ـ حمص، يستطيع أن يحوّله إلى أكثر المطارات سلامة في العالم.
أمّا عن الأهداف العامة للمشروع فتكمن في خلق فرص عمل متوقّعة بنحو 6 آلاف فرصة عمل في السنة الأولى كذلك تفعيل وسائل النقل وخفض التكلفة ورفع مستوى القدرة التنافسية، وإشراك القطاع الخاص في مشاريع ذات أولوية للدولة. أمّا عن موجبات المستثمر فحدّدتها الدراسة بـ»تصميم وتشغيل وتحويل المشروع للدولة عند انقضاء فترة العقد، وتأهيل وتطوير كامل أو جزء من المنطقة الإستثمارية (الجزء الشمالي)، وإعادة بناء جزء من المباني الواقعة في المطار (الجزء الجنوبي)، والتزام مالي لتمويل المشروع. وضع سياسة التشغيل والإدارة واستثمار الأراضي، وضع الدراسات البيئية والفنية، وتأسيس شركة مساهمة لبنانية على أن يكون ثلث رأسمالها من أسهم اسمية تعود ملكيتها لأشخاص طبيعيين أو لشركات لبنانية. وتبلغ تكلفة المشروع بحسب الدراسة 90 مليون دولار، وقدرت تكلفة المرحلة الأولى المتضمنة تأهيل المدارج والمنشآت والتجهيز بـ45 مليون دولار، أما المردود المالي المتوقع للمستثمر فهو 25% لفترة استثمار تمتدّ 30 سنة». وعام 2012 قضى قرار بتوسعته وتطويره لاستقبال الأفراد والبضائع، وربطه بطرابلس بسكك حديدية. ولكن، حتى اليوم، لا يزال المشروع مُعلّقاً ولم يدخل حيّز التنفيذ.
أهميّته الجغرافية
يبعد المطار 105 كيلومترات شمال بيروت، و25 كيلومتراً شمال مدينة طرابلس. كما يبعد 7 كيلومترات عن الحدود السورية اللبنانية شمالاً، وبمساحة تقريبية تبلغ 5.5 ملايين متر مكعب. ويرتبط بشبكة طرق دولية ساحلية وداخلية، ويعتبر أخصائيون أن موقع مطار القليعات أهم بكثير من موقع مطار بيروت الدولي، لعدم تعرّضه للعواصف والتقلّبات المناخية التي قد تؤثر على حركته، كذلك لم تنشأ في محيطه الأبنية التي تعوق حركة الطيران، كما أن الطائرات تستطيع الهبوط والإقلاع من دون الحاجة إلى «موجّه»، علماً أنه مجهّز برادار (G.G.A) يتيح للطائرة الهبوط في أسوأ الأحوال الجوية.
في الخلاصة، يدخل مطار القليعات مطبخ الملفّات الدسمة. هو امتحان لنوايا السلطة والقوى المؤثّرة، في مدى قدرتها على «عصرنة» الدولة ومرافقها الحيويّة والاستراتيجية، وإرادتها في تحقيق الإنماء المتوازن بين المناطق وعدم حشر اهتماماتها في مركزها (العاصمة). الأيام المقبلة، ستحدّد إذا كان الحلم سيغطّ أم سيطير مجدّداً. فهل ينجح نوّاب الشمال في ما عجزت عنه قوى عديدة خلال 30 عاماً؟
ثلاث رحلات أسبوعية لـMEA
إبّان الحرب الأهلية اللبنانية التي قطعت أوصال الوطن، برز اسم مطار القليعات كصلة وصل مع تعذّر التنقّل بين بيروت والشّمال. فتمّ تجهيزه لاستخدامه كمطار مدني داخلي، وشهد حركة هبوط وإقلاع ناشطة، وكانت الطائرة الأولى من نوع «بوينغ 720» تابعة لـ»طيران الشرق الأوسط»، وعلى متنها 16 راكباً من الشمال إلى العاصمة. بعدها عمدت «الميدل إيست» إلى تسيير ثلاث رحلات أسبوعياً، وارتفعت إلى رحلتين يومياً، وقُدّرت حينها أعداد المسافرين الذين استخدموا مطار القليعات بنحو 300 راكب كلّ يوم، ليتوقّف عن استقبال الرحلات أواخر العام 1991.
مدرج بطول 3200 متر
مطار القليعات مجهّز بمدرج طوله 3200 متر وقابل لتطويره إلى 4000 متر، وعرضه 60 متراً، ومجهّز بـTaxi Way بطول 3200 متر موازٍ للمدرج. وتتوفر في المطار مستودعات للوقود وهنغارات للصيانة وقطع الغيار وأجهزة اتصال ورادار. وخلال استعماله إبان الأحداث اللبنانية، لاستقبال الركاب من وإلى مطار بيروت كمطار مدني، أضيف إليه بعض التجهيزات الضرورية كقاعة استقبال المسافرين وكافيتيريا وغرف مكاتب لتأشيرات الدخول والخروج وجميع مستلزمات المطار المدني، وتبقى الحاجة إلى الإنارة لحركة الهبوط الليلي وأجهزة الرصد الجوي والمراقبة.
المصدر:نداء الوطن