كتبت روزانا بومنصف-
في البعد القضائي لما يجري، طُوي لا بل أُنهي ملفّ التحقيق في انفجار مرفأ بيروت وسلك طريق كل التحقيقات في الاغتيالات التي حصلت في لبنان أي أقفل عليه وعلى نتائجه التي تفجّرت مع تفجير السلطة القضائية. يضرب قضاة محترمون كفاً بكف إزاء ما وصل إليه #القضاء الذي سقط سقوطاً مدوّياً مقدّماً خدمات وهدايا لا تُثمَّن لسلطة سياسية تنتظر بفارغ الصبر وضع حدّ نهائي لملف انفجار المرفأ في ظل أخطاء قانونية ارتكبها كل من المحقق العدلي القاضي طارق بيطار والمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، فمجلس القضاء الأعلى الذي توّج مساراً تأكد خلال الأعوام الثلاثة الماضية أنه ليس على مستوى التحديات وأظهر ضعفه وعدم تمتعه بالأهلية لا في مواجهة منظومة سياسية تحتاج الى الكثير من الحنكة والذكاء للقيام بذلك ولا منع تطوّر خلاف قضائي يتفاعل منذ رفض الرئيس السابق ميشال عون التوقيع على التشكيلات القضائية وبقي يتدحرج بمفاعيل سياسية خطيرة بعد انفجار مرفأ بيروت في آب 2020.
في البعد السياسي تساؤلات لا بل اقتناعات بأن ما حصل هو نتاج تجديد تحالف ركني تفاهم مار مخايل بعد لقاء المصالحة بين “حزب الله” والتيار العوني أخيراً.
يرى قانونيون أن القاضي بيطار أخطأ حين عاد الى استئناف عمله وفق نظرية تحتمل جدلاً ولكنها تأخرت أكثر من سنة فأضعفت موقفه وكان يمكن أن تكون أقوى لو أنه استند إليها قبل ذلك. وحين أصر على مواصلة التحقيق على قاعدتين إحداهما لن يستطيع فيها انتزاع الملف من يده، أن يعمد الى إخلاء سبيل بضعة موقوفين مع إعلان استئناف عمله ويعلن الادعاء على مجموعة من قادة الأجهزة الأمنية ومن السياسيين والقضاة. ففي ظل تجربته السابقة مع الادعاءات ضد وزراء في وقت سابق ودعاوى كف يده فإن انتظار إصداره القرار الاتهامي كان أكثر جدوى وهو المدرك أنه يسير في حقل ألغام فلا يذهب إليه ملقياً قنابل مسبقاً. والثانية أن إطلاقه خمسة من الموقوفين أي صمته 13 شهراً فيما هؤلاء يستحقون إخلاء السبيل فإن الأمر يرقى الى حجز حرية. وثمة من يرى أن بيطار أخطأ في نظرية أنه حين يحيل مجلس الوزراء القضيّة الى المجلس العدلي تسقط الحصانات عن كل الموظفين لأن موضوع الحصانة يواجه حالات فردية وكل مسألة على حدة.
ومع أن القانونيين ابتعدوا عن الإدلاء بدلوهم في الفوضى القضائية الحاصلة لإدراكهم أن المسألة سياسية في الدرجة الاولى ولا تخلو من أبعاد طائفية كذلك، فإن ذلك لم يمنع البعض منهم من تسجيل عناوين عريضة لمآخذ كذلك على القاضي عويدات بدءاً من رسالة بدأها بآية قرآنية وعرّج فيها على عبارة من الإنجيل فيما قوانين الأحوال الشخصية لها قواعدها وخارج والقوانين المعمول فيها في لبنان هي قوانين مدنية وليست دينية والأحكام تصدر باسم الشعب اللبناني لا باسم أي طائفة. وما أقدم عليه من إطلاق الموقوفين يثير تساؤلات على أي أساس فعل ذلك وهل يملك ملفاتهم أم لا. فإن كان يملكها فهذا تعدٍّ على صلاحيات المحقق العدلي وهو لا يستطيع تحت ذريعة أن بيطار أخذ صلاحياته فإنه سيأخذ صلاحياته في المقابل، وإن أطلقهم من دون وجود ملفات لديه عن أسباب توقيفهم فلماذا صمت عن بقاء الموقوفين طيلة هذه المدة. وما كان أحد ليعترض على ذلك لو أنه برّر إطلاق الموقوفين بصورة موقتة بالاستناد الى مسؤوليته عن الحق العام وعن السجون وعلى قاعدة أن لا وجود لسلطة تبّت أمرهم بالإضافة الى العهد الدولي حول الحريات، علماً بأن عويدات ذكر في كتابه عن إطلاق الموقوفين في انفجار المرفأ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية مركزاً على الفقرتين رقم واحد ورقم ٣ وفيهما أن لكل فرد الحق في الحرية والأمان على شخصه فيما الفقرة رقم ٤ أكثر أهمية حيث لكل شخص حُرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع الى محكمة لكي تفصل من دون إبطاء في قانونية اعتقاله. ويمكن لإطلاق الموقوفين من دون امتلاك ملفاتهم أن يعني إقراراً بالتعسف وهو ما يرد في الفقرة ٥ في العهد الدولي أي إمكان مقاضاة هؤلاء للدولة من أجل الحصول على تعويض. فإن كان المدعي العام التمييزي يملك الصلاحيات الواسعة المعروفة، فإن قاضي التحقيق العدلي ملك على ملفه أياً يكن ولا تؤخذ صلاحيات قاضٍ إلا بالقانون.
ومع أن أفق التأزم الكارثي غير المسبوق على صعيد تدمير القضاء والمترافق مع تدحرج الانهيار المالي على نحو متسارع يفترض استنتاجات من نوع أن القوى السياسية ستضطر الى إجراء مساومات ولا سيما بعدما أنهت ملف انفجار المرفأ وتخلصت منه، ما يريحها كثيراً على غرار ما أظهره موقوفون محسوبون على أفرقاء سياسيين بسرعة، فإن مصادر قانونية تعتقد أن الهدايا قدّمها القضاء بنفسه الى السياسيين الذين تلقفوها بسرعة نتيجة انتظارهم توظيفها لمصلحتهم ولإنهاء ملف انفجار المرفأ ووضع حد نهائي للتحقيق فيه، إذ يخشى أن المطالبات بالتحقيق الدولي على وجاهة أسباب من يرفعها لإدراكه عقم الرهان على القضاء اللبناني المشلول في الأصل والذي يخضع لتجاذبات القوى السياسية لن تؤدي الى أي نتيجة حتى لو سلكت طريقها فعلاً الى إنشاء لجنة تحقيق دولية. وتجربة المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري كانت محبطة جداً في مضمونها كما في عدم الرغبة في تنفيذ أحكامها، إضافة الى العجز عن ذلك.
حين عيّن الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران روبير بادنتير رئيساً للمجلس الدستوري في ٤ آذار ١٩٦٨ تلقى من الأخير رسالة يقول فيها “السيد فرنسوا ميتران صديقي شكراً لتعييني رئيساً للمجلس الدستوري. لكن اعلم أنه من هذه اللحظة، تجاهك، لديّ واجب الجحود”. نعم، واجب الجحود لأن المجلس الدستوري هو سلطة معاكسة للسلطة التي تعيّنه.
المصدر:النهار