أقامت “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية ” و” معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي” في جامعة البلمند، ندوة حول الدكتور أسد رستم مؤرخ الكرسي الأنطاكي، بمناسبة إطلاق خمسة كتب للدكتور أسد رستم من منشورات البطريركية الأنطاكية بهمة “مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية”.
وحضر الإحتفال الذي أقيم في جامعة البلمند- قاعة البطريرك أغناطيوس الرابع راعي ابرشية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس المتروبوليت إفرام كرياكوس ممثلا غبطة البطريرك يوحنا العاشر بطريرك مدينة الله أنطاكيا العظمى وسائر المشرق، راعي أبرشية طرابلس للروم الكاثوليك سيادة المطران إدوار ضاهر، راعي ابرشية طرابلس المارونية سيادة المطران يوسف سويف ممثلا بالأب عبود جبرايل، مفتي طرابلس والشمال سماحة الشيخ محمد إمام والشيخ عبد الرزاق إسلامبولي الرئيس السابق لدائرة الأوقاف الإسلامية بطرابلس، النائب أشرف ريفي ممثلا بكمال زيادة، النائب جميل عبود، النائب الدكتورنجاة عون صليبا، النائب الدكتور غسان سكاف ، السفيرآصف ناصر ممثلا النائب الدكتور حيدر ناصر، الوزراء السابقون سمير الجسر، إلياس حنا ، النواب السابقون مصباح الأحدب، نضال طعمة،
كما حضر الإحتفال الرئيس السابق لبلدية الميناء عبد القادر علم الدين، أمين عام جمعية المقاصد الإسلامية الخيرية حسن بحصلي ممثلا رئيس الجمعية فيصل سنو على رأس وفد من مجلس الامناء، رئيس لقاء أبناء الجبل الشيخ الدكتور منير حمزة، حاكم اندية الليونز بطرس عون وحشد من الهيئات الثقافية والإجتماعية ومدراء الجامعات الرسمية والخاصة وكتاب وأدباء.
في الإفتتاح النشيد الوطني اللبناني ونشيد جامعة البلمند ونشيد الفيحاء، نشيد مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية.
الخوري
وألقى الشيخ منصور الخوري امين عام الجمعية اللبنانية للإنترنت والمعلوماتية كلمة ترحيبية وقدّم للمتحدثين وقال: بإسم هذا المعهد الوطني العريق إسمحوا لي أن أرحب بكم جميعا في هذا اللقاء الذي نجتمع فيه على ذكرى عظيم من أمتنا هو الدكتور اسد رستم مؤرخ الكرسي الإنطاكي الذي عمل على مدى عقود في البحث والتأليف وأمضى العمر في نشر رسالة القيم الإنسانية التي إستقاها من حضارة الشرق مهبط الرسالات والديانات السماوية، وقد شكل في مسيرته المضيئة مدرسة في الميادين العلمية والأكاديمية، لقد كان كبيرا في بناء صروح المعرفة ورائدا من رواد التدريس الجامعي فأضحى منارة لكل طلاب العلم والإختصاص ومثالا يحتذى لكل أجيالنا الطالعة.
زريق
ثم تحدث رئيس الهيئة الإدارية لمؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية الدكتور سابا قيصر زريق فقال: في ذاك السبت من ربيع 1991، جَرياً على عادتي، وبينما كنتُ أتسكَّعُ في شارعٍ ضيقٍ من فيحائي الحبيبة، إنطلاقاً من تقاطعِ الجامعِ المنصوري الكبير وصولاً إلى ساحةِ البلديةِ العتيقة، زائراً وفياً للمكتباتِ العديدةِ المتراميةِ على ضفتيه، عَرَّجتُ على مكتبةِ “السائح” لأبينا ابراهيم سروج، مستعرِضاً رفوفَها المكتظة بما لذّ وطابَ من أدبٍ وتاريخ، حين لفَتَتْني مجموعةُ كتبٍ من أجزاءٍ عديدة، بتجليدٍ فنيٍ خَمريِّ اللون فاخر، لمؤلِّفٍ لم أكن قد سمِعتُ به من قبل؛ هو الدكتور أسد رستم. عَقَدْتُ العزمَ على تملّكِ المجموعةِ لأن أحدَ رفوفِ مكتبتي الخالي بحاجةٍ إليها.
واقتصرَتْ مراجَعتي لها آنذاك على عناوينها وتواريخِ إصدارِ كلٍ منها، خلال مرحلةٍ زمنيةٍ إمتدَّتْ من سنة 1984 ولغاية سنة 1991. وأفادتني تلك العناوينُ المتنوعة أن غنيمَتي هي أشبهُ بموسوعةٍ تاريخيةٍ شاملة؛ يتصدرُها مُجَلدُ “مصطلح التاريخ”، تتبَعه مجلداتٌ أخرى عالج فيها المؤلفُ تاريخَ لبنان في عهدَي الأمراء الشَهابيين والمعنيين وتحتَ حُكمِ العثمانيين وكذلك حروب إبراهيم باشا في سوريا والأناضول.
وتابع: كما أفْرجتِ الموسوعةُ عن دليلٍ حِسيٍ على إهتمامِ المؤلفِ بأنطاكيا وكنيستِها والرومِ وحضارتِهم وصِلاتهم بالعرب؛ دون تجاهلِ المشاكل التي إعترضَتْهم وكذلك بالعلاقةِ مع روما والفاتيكان وبتاريخ اليونان من فيليبوس المقدوني إلى الفتحِ الروماني وعصرِ أوغوسطس قيصر وحلفائه (44 ق.م. – 69 ب.م.). فاستحقَّ المؤلِّفُ عن جدارةٍ نادرةٍ لَقَبَ “مؤرِخ الكُرسي الأنطاكي”.
وشاءَتِ الظروفُ أن يُرَدَّدَ إسمُ أسد رستم أمامي بكثيرٍ من الإطراء، دون أن يحُثّ ذلك فُضوليتي على العودةِ إلى مكتبتي لقراءةِ بضعةِ صفحاتٍ من المجموعة الخَمرية لأغرِفَ من مضمونِها معرِفةً جديدة.
وقال: لم أكُنْ أدري آنذاك أن ذلك المؤلِفُ الغزيرُ حَفرَ صخرَ التاريخِ بيَراعِ المُثابرِ المُجاهِد علمياً، هو الذي ضجَّتْ بأخبارهِ الأوساطُ الأكاديمية، رائداً في إرساءِ منهجٍ علميٍ جديدٍ لدراسةِ التاريخ، فأضحَتْ آثارُه مرجِعاً لا يقارن بأي مرجِعٍ تطَّرقَ إلى المواضيعِ نفسها؛ يعتمدُها مؤرِخون وفُقهاء، معتبرين مضمونَها الأمين من الثوابت التي لا تُدحَض. فالموضوعيةُ الصِرفةُ التي إتّسمَتْ بها أعمالُ دكتور أسد رستم تُصدِقُ قولَ الأديب الكبير أمين الريحاني “إن التاريخَ الصادقَ هو شاهدٌ لا قلبَ له”؛ أي بعبارةٍ أخرى، لا تَدْخُلُ في حِسبانِ واقعيَتِهِ أيةُ أحاسيسَ شخصية.
إلى أن حان اليومُ الذي تلقّيتُ فيه اتصالاً من الدكتور جان توما، يُفيدُني بأنه يرغبُ في أن يعرِّفَني إلى الأرشمندريت البروفسور يعقوب خليل، عميد معهد اللاهوت في بَلَمندِنا الشامِخ. وتمّ لقاءٌ ثم آخر، شحذَ خلالَهُ أبونا يعقوب، وهو المطَّلع على نشاطاتِ مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، همّةَ المؤسسة لإخراجِ خمسةِ كتبٍ لأسد رستم، كانت عائلتُهُ قد سلّمت مخطوطاتِها إلى راعي هذا الحفل، غِبطةِ أبينا الكبير، يوحنا العاشر. وقبل أن ترمُشَ عيناي رمشَتَهما التالية، وافقتُ، علنَّي بذلك أكفّرُ عن تجاهلٍ غير مبرَّرٍ لأحدِ عظمائنا.وفي زيارةٍ له للمؤسسة، أفادني الأخ الصديق الغيور الشيخ منصور الخوري، بعد اطّلاعه على الإصدارات الخمسة، بأنه على علاقةٍ وثيقةٍ بابن د. أسد، عنيتُ الدكتور صلاح رستم. فأسَرَّيتُ له بأني أنوي إقامةَ ندوةٍ حول مؤرِّخنا الكبير، فاقترحَ أن ألتقي د. صلاح. وكان اللقاءُ في مكتبِ المؤسسة في طرابلس، تمهيداً للقاءاتٍ أخرى، وذلك نظراً للمودةِ الكيميائية التي سَرَت بيننا. وكان من الطبيعي، لا بل من الطبيعي جداً، أن أعرضَ عليه ومن ثم على أبينا يعقوب عقدَ هذه الندوة.
وتبيّن لي لاحقاً أن بين الأبِ وابنِهِ صلاح وابنتِهِ لميا شراكةً نُبُوغية، إذ أنهما جَسَّدا القولَ الرائجَ “أن الولدَ سِرُ أبيه”. وها نحن اليوم معهما، في رِحابٍ أنطاكية، لطالما سالَ قلمُ د. أسد في تخليدِ تاريخها، إيفاءً لوشلٍ متواضعٍ من يمِّ ما له في ذمتنا.
خليل
ثم كانت كلمة الأرشمندريت البروفيسور يعقوب خليل
عميد معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ – جامعة البلمند، فقال:بدايةً أودّ أن أرحّب بكم باسم أبينا صاحب الغبطة والقداسة البطريرك يوحنّا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، الذي شاء وبارك فصدرت من ضمن منشورات بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق أولُ خمس كتب من مجموعة مؤرّخ الكرسيّ الأنطاكيّ الدكتور أسد رستم.
وقال: إنّ العظماء، أيّها الضيوف الكرام، يختلفون عن ذوي المقامات، في أنّهم لا ينالون الألقاب الرنّانة السائدة، بل يُحدِث القومُ لمثل هؤلاء الألقابَ، كي تُنصف فرادة مساهماتهم التي تصنع التغيير. لذا أطلقوا على أسد رستم لقبًا لم يُطلق على أحد سواه لعدّة قرونٍ من الزمن خلت، لقب مؤرّخ الكرسيّ الأنطاكيّ.
لم يكن أسد رستم ناقلاً في انشغاله في التاريخ، فإنّه لم يجمع تاريخ أنطاكية العظمى تجميعًا من مصادر متنوّعة، بل دقّق وبحث وجادل كأسدٍ جبّار وقال كلمته في الأحداث التاريخيّة وأنصفَ، لا سيّما في كتابة تاريخ أنطاكية خلال الفترة العثمانيّة، حين تلطّخت كتابة التاريخ بهوى الذاتيّة وتحريف الحقائق لغايات خفيّة. فكان مؤرّخًا ثائرًا على النفاق والترويج لنشاطات مشبوهة في حظيرة الكنيسة الشرقيّة. وما أثمن هذه الهديّة التي وعد ان يقدمّها لكنيسته وصدق في وعده.
وتابع: نعم كان ثائرًا، كما يسمّيه الزميل الأب جورج برباري، ثائرًا كمؤرّخ وكرجل كنيسة. فهو المؤرّخ الثائر الذي لم يكتف باتباع منهجيّات واسعة القبول في البحث بل طوّر منهجيّة وجدها تساهم في جلاء ماهو صحيح ثابت من الروايات مما ليس بصحيح وثابت. وأظهر بالمجهود البحثيّ الذي بذله أنه لا يمكن للمؤرّخ أن يتغاضى عن تاريخ الروم ليجْلُوَ تاريخ العرب.
هو أيضًا الثائر الكنسيّ الذي كان من أبرز أعمدة النهضة في كنيسته الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة في فترة أواسط القرن العشرين، ونحن اليوم نبني على أسسٍ أثمرت عن عملهم الدؤوب.
وتابع: أخذت بطريركيّة أنطاكيّة وسائر المشرق على عاتقها إعادة نشر مجموعة مؤلّفات مؤرّخها الكبير، لتكون بين يديّ القرّاء الضمنيّين الذين كانوا في ذهنه. ففي هذا المعهد اللاهوتي، بشكل خاص، يستمر أسد رستم معلّمًا للأجيال دون انقطاع. يرتاح قرير العين في عرينه على هذه التلّة البلمنديّة المقدّسة ويفتخر، إذ صارت منهجيّته الثائرة مبدأً متّبعًا في كلّ فروع الدراسات اللاهوتيّة.
وختم: أخير وليس آخرًا، أوجّه شكرًا كبيرًا لمؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة التي بهمتها تم إعادة طبع كتب مؤرّخ أنطاكية العظمى أسد رستم، وهي تشارك اليوم معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ – جامعة البلمند في رعاية هذا الاحتفال التكريميّ.
درويش
وكانت كلمة للباحث في التاريخ البروفيسور ماجد الدرويش فقال: رجل مميز في زمانه ومكانه وعلمه، تنضح كتبه بافتخاره بإنتمائه العربي الذي يشكل عمق بلاد الشام التاريخية، التي تعربت قبل الفتح الإسلامي بتسعمئة سنة (عبارته)، والعربية عنده امتداد طبيعي للسريانية التي بدأت بها المسيحية، لذا يرى أن التكامل بينهما يشكل أساسًا متينًا لإعادة اللحمة إلى هذه الكنيسة التي أصابها الإنشقاق الكبير.ومن هنا وجدناه في الكتاب الذي نحن بصدد الاحتفاء به (تاريخ الكنيسة الانطاكية) يجهد في تقريب وجهات النظر بين الشرق والغرب من خلال تحقيق النصوص التاريخية العائدة للكنيسة وفق قواعد علم المنهجية (methodology) وهو العلم الذي وضع فيه كتابه العظيم (مصطلح التاريخ) مستمِدًا مباحثه من مناهج علماء الحديث المسلمين، فلم تعد كتاباته جسرًا بين الكنيسة بشقيها الشرقي والغربي، وإنما باتت جسرا للتكامل الحضاري بين الإسلام والمسيحية من جهة، وبين كل حضارات الأرض من جهة أخرى.
وتابع: يقول مؤرخنا في تقديمه لهذه المجموعة: «وإذا ما صلَّينا وابتهلنا لوحدة الصفوف، فإنما نفعل ذلك لأجل متابعة العمل في حقل الرب بعد جمودٍ دامَ طويلًا، وحقلُ الرب واسعٌ جدًّا يشمل العالَمَ بأسره، والعمل فيه لا يثمر إلا إذا اقترن بظروف صالحة معينة، وأهم هذه الظروف التجدُّد الداخلي الذي يتحلَّى بإنكار الذات، وإنكارُ الذات يبدأ باعترافٍ داخلي بالعيوب وعدم الوصول إلى الكمال، ويفرض تنازلًا حقيقيًّا عمَّا نسمِّيه كرامةً شخصيةً، وهو يتطلَّب استعدادًا للتعاون مع الغير في سبيل مبدأ صحيح عام كليِّ المفعول». ويتوسل سبيلا لذلك الابتعاد «عن سياسة القسر والإكراه، فلا نستغل ظرفًا سياسيًّا، ولا نستعين بسلطة زمنية مسيطرة، فقد جرَّبنا هذا النوع من العلاج مرارًا وتكرارًا؛ فأخفقنا وتباعدنا».
وقال: كلام راق جدا، وعاقل جدا، ومنطقي جدا. وبالفعل نجده سلك هذا السبيل، فجهد في كتابه الذي نحن بصدد الاحتفاء به في تقريب وجهات النظر بين المسيحيين، شرقيين وغربيين، كما جهد في تقريب وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين، فبرزت جهوده فيما أخرجه من مجموعات عربية مهمة للوثائق التاريخية، وعلى الخصوص تلك التي تعود للقرون الأربعة (من السابع عشر إلى العشرين ميلادي)، وهي الفترة التي أسند إليه تدريسها في الجامعة الأمريكية في بيروت. وهي مجموعتان: الأولى: (الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا) ستة مجلدات، الثانية (المحفوظات الملكية المصرية من سنة 1810 إلى 1841) خمسة مجلدات، طبق عليها قواعد البحث التاريخي التي أثبتها في كتابه (مصطلح التاريخ)، كما طبقها أيضا في كتابه المهم جدا (الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب)، هذا الكتاب الذي أنصف فيه الإسلام فيما كتبه في الفصل الخامس عشر من الباب السادس منه تحت عنوان: (النبي العربي والروم).
وقال: إن قراءة التاريخ تحتاج من المؤرخ علوما وعقلا وجهودا مضنية صادقة تبدأ بمرحلة جمع الوثائق التي تعتبر المراجع الأولية (التقميش)، ثم «نقد هذه المراجع الأولية؛ ليتثبت من أصالتها وعدم تزويرها أو الدس فيها»، وما يستتبع ذلك من خطوات توثيقية للأحداث والأشخاص. ثم «تجيء المرحلة الثالثة في التأريخ، وهي دور إثبات الحقائق المفردة، فيتابع المؤرخ البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج». ولأن التاريخ «بعيدٌ عن المشاهدة، ضعيفُ الاستدلال بالقياس»، كان لا بد من الابتعاد عن تعميم الأحكام والتسرع في إطلاقها، وعدم الاعتماد على ما انفرد به من لا يوثق بروايته، حتى لا تنحرف الحقيقة عن مسارها التاريخي، إذ من الممكن أن يكون الانحراف سببا لشقاق إنساني، وصراع حضاري أو عقدي البشريةُ في غنى عنه.
وختم: فكم من حرب أُطلقت مقدسةً، وكانت النتيجة أنها مجرد هوىً تمكن في عقل وقلب محركها، وفي ذلك يخاطب القرآن الكريم المؤمنين بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾، فتصوير الأمر على أنه دين، وهو في الحقيقة غير ذلك، خيانة للدين وليس نصرا له، وسبيل الابتعاد عن ذلك: العقل والعلم والإنصاف، وهي الصفات التي برزت بشكل رائع في كتابات مؤرخنا.
نحاس
وتحدث بإسم الرابطة اللبنانية للروم الأرثوذكس الأستاذ فواز نحاس فقال: أسد رستم هذا الذي حدثنا عنه غبطة أبينا البطريرك يوحنا العاشر يازجي خلال لقائنا الأخير معه في المقر البطريركي في البلمند قائلا:انه بالإضافة إلى كونه مؤرخ الكرسي الإنطاكي هو مرجع في الموضوعات التي كتب فيها لدى غالبية جامعات العالم.
وتابع: إنكببت على مطالعة هذه الكتب وكنت كلما أنهيت قراءة جزء سارعت إلى التالي، فإذا بي أمام مؤرخ نافس في الدقة والحيادية والموضوعية والثقافة العالية المستوى أهم المؤرخين العالميينن هذا ما دفع الدكتور شارل مالك في كتابه “المقدمة” إلى ان ينصح كل من يريد كتابة في التاريخ بمراجعة مصطلح التأريخ لاسد رستم الذي ضممنه طريقة البحث التاريخي التي لها مبادئها وأصولها المعترف بها.
وقال: لقد أدرك الدكتور رستم أن معنى التاريخ يكمن في وحدة تطوره ونموه وفي تفاعل الفكر الحر عبر التراث الإنساني الذي يختزن قمم الفكر والروح التي لا تضاهى ولا يعلى عليها، وان الإسهام الحقيقي في كتابة التاريخ لا يتم ولا يكتمل إلا بالغوص في جزئيات هذا التاريخ فأبدع في ذلك حيث بقي أمينا للحقيقة التي نراها جارحة ومؤلمة في كثير من الأحيان وأكاد أقول في غالبها الأمر الذي سيكتشفه كل قارىء في اية جهة كان وفي اي موقع وقف.
وقال: كان الدكتور رستم جادا في طلب الحقيقة المجردة التي آمن بها فدونها في كل كتبه بلغة سهلة وراقية نلاحظها حين كتب عن الخلافات التي حدثت بين أبناء الكنيسة الأرثوذكسية الواحدة او بينهم وبين سواهم، وهذه الحيادية إنسحبت على كل مدوناته وفي كل مؤلفاته خاصة حين نقرأ في كنيسة مدينة الله العظمى حيث خصص الكتاب الثالث لموضوع واحد متشعب وهو: النصرانية في دار الإسلام حيث ارّخها من العام 1453 وهو تاريخ الفتح العثماني للقسطنطينية.
وختم: ان الرابطة اللبنانية للروم الأرثوذكس التي ينص نظامها الاساسي على حرصها وواجبها في المحافظة على التراث الأرثوذكسي بالتعاون والتنسيق مع المرجعيات الإكليريكية الأرثوذكسية وعبر التعاون مع سائر الهيئات الثقافية العلمانية والمدنية في الوطن وبلاد الإنتشار تشكر بصدق الجهات الداعية لهذه الندوة حول المؤرخ الكبير وتقدّر عاليا الجهود الكبيرة التي تقوم بها جامعة البلمند بتوجيه من صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر في الحفظ على الآثار الثمينة والغنية التي تركها لنا كبارنا الذين سبقونا.
لميا رستم
وتحدثت إبنة المكرّم السيدة لميا رستم شحادة فقالت: لقد كُرّم اسد رستم عدة مرات في حياته وحاز على عدة اوسمة كما كُرّم بعد وفاته وقلّده فخامة الرئيس السابق شارل حلو ممثلا بوزير التربية آنذاك الوسام اللبناني الذهبي، كما كرمته الجامعة اللبنانية بإقامة مؤتمر إستمر لثلاثة أيام لدرس صفاته وعطاءاته كما كرمته جامعة البلمند ليوم واحد حيث درّست خلاله عطاءات رستم وفعلت مثلها الجامعة الأميركية.
أضافت: وها نحن اليوم نكرم رستم بسبب محبة الدكتور سابا زريق وإجلاله وإعجاب عميد كلية اللاهوت الأب يعقوب. فلماذا كل هذا التكريم؟ والجواب في كلمة واحدة هو “المؤسس” مع “ال” التعريف وقد إستعرت ال التعريف من المؤرخ الدكتور منير إسماعيل الذي وصف رستم بمؤرخ المتصرفية ثم قال: لا بل هو مؤرخ لبنان ثم قال: لا بل هو “المؤرّخ”. إنه المؤسس لأنه عندما عاد من جامعة شيكاغو في سنة 1923 متأبطا شهادة الدكتوراه بعد 15 شهرا من مكوثه هناك، بدرجة الإمتياز الأعلى وواجهته الإدارة في الجامعة الأميركية بالطلب منه تعليم تاريخ العرب في الأربعماية سنة الأخيرة.
فإتجه رستم رأسا إلى المكتبة للإطلاع على هذا الموضوع لأن موضوع إختصاصه كان تاريخ الشرق القديم ولكنه فوجىء بخلو المكتبة العربية من اي مصادر أولية لتلك الفترة من التاريخ.
وتابعت: لقد قام المؤسس بتجميع هذه المصادر خلال سفرة له إلى سوريا وفلسطين ومصر والأردن وتركيا، كما قصد عدة سفارات أهمها السفارة البريطانية ومكتبات أهمها مكتبة البطريركية المارونية في بكركي، والمحاكم الشرعية وغيرها، ونتج عن هذا العمل الشاق اربعة اجزاء لهذه الوثائق وخامس للفهارس في سنة 1930 وأسماها “الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا”.
وقالت: كتب رستم إلى إبنته لميا وزوجها:”إني بدأت العمل الجدي في يونانية العهد الجديد وذلك بتدوين الكلمات اليونانية ومقابلها بالعربية على بطاقة واحدة لإعادة ترتيب كلمات العهد الجديد بموجب حروف الهجاء العربية، وبعد الإنتهاء من هذا العمل نبدأ بدرس كل كلمة بمفردها وإعداد ربع عامود في التعليق عليها في معناها اليوناني الاصلي ومعناها في العهد الجديد ووجه الخطأ ووجه الصواب في الترجمات العربية المختلفة ثم نطبع على الميميوغراف ونوزع على العلماء طالبين آراءهم قبل الطبع النهائي.
اضافت: انها المحاولة الأولى في التاريخ الكنسي لتأليف معجم يوناني عربي وقد كلفه بها مجلس الكنائس العالمي، ووصف رستم الهدف من القاموس بأنه تقديم مرادفات لجميع الكلمات اليونانية في العهد الجديد بالعربية بموضوعية وغير إنحياز.
صلاح رستم
ثم القى كلمة العائلة الدكتور صلاح أسد رستم إستهلها بشكر البطريرك يوحنا العاشر والدكتور سابا زريق في سعيهما لعقد هذا اللقاء التكريمي لاسد رستم الذي ينعش الروح ويبعث الأمل في نفوسنا بأن أبناء لبنان مستمرون بالعطاء وينهلون من معين لا ينضب ألا وهي الحقيقة المجردة التي قضى اسد رستم حياته سعيا وراءها.
وتابع: من هنا أستنتج واقول أن أسد رستم ما زال حيا فينا نقرأ له ونسمع صوته أحيانا ونسعى لتقليده أما “البابا أسد” فهو اسطورة خلدها التاريخ لأن كل من تتلمذ عليه كان يحظى بنفس المحبة والتضحية التي شملتني واخوتي، ومن هنا ترعرعت على إحترام كل اللبنانيين ومقدار محبتي لهم تقاس بقدر محبتهم للبنان بغض النظر بما يعتقدون به فهم شركائي في الوطن وبه نعتز وسوف ننهض بعزائم المخلصين.
وقال: اسد رستم ترك فينا نحبة خالدة لما رأينا منه محبة وتضحية وإحتراما بالغا “لأم صلاح” فكانت وداد توفيق سلوم شريكة حياة اسد بالمعنى الصحيح والقويم ففتحت بيته وأغنته محبة نادرا ما ترى مثلها وقدمت له كل عون وسهّلت عليه الكتابة والتأليف..
أسد رستم علمني الإبداع وان أستوعب خصمي وأتحمل المصاعب وأن أكون صريحا شفافا ووفيا مخلصا لعملي ووطني حتى الشهادة.
وإختتم اللقاء بحفل كوكتيل