هي ليست مجرّد أرقام أو إحصاءات، بل إنها حقائق تكشف واقعاً مأسوياً وحالات معيشة لغالبية اللبنانيين، منذ ما يقارب ثلاثة أعوام. هجرة، تغطية صحّية، مداخيل الأسر اللبنانية، البطالة: كلها محاور تتفرّع منها شؤون المواطن الذي يعيش في هذه البلاد، وسط أزمة، لا بل أزمات وانهيارات… صحيح أن بعض الفوارق في الأرقام قد تظهر حيناً، الى جانب بعض التشابه أحياناً أخرى، بين مصدر وآخر، لكنها ليست فوارق من النوع الذي يحمل تباينات جوهرية، لأنها تتلاقى كلها في نقطة مشتركة وقاسم جامع تحت عنوان عريض: واقع اللبناني الى تدهور مستمرّ!
أخيراً، نشرت “إدارة الإحصاء المركزي” بعض الأرقام التي تشير الى بعض الحقائق، وهي حقائق “مرّة”، ولعلّ مرارتها تتضاعف، حين يشعر اللبناني بأن لا حلول في الأفق، وأن الأشهر المقبلة قد تكون أكثر ثقلاً ووطأة على كاهل الشعب عموماً.
الهجرة والدخل في الأرقام، ووفق الإحصاء المركزي: 52% من المقيمين يرغبون في الهجرة. 51% من المقيمين لم يعد عندهم تغطية صحّية. 49% من الأسر دخلها أقل من مليونين و400 ألف.
وإن كانت هذه الأرقام تتجاوز نصف اللبنانيين، في مؤشر مقلق، لا بل خطير، فإن مجرد مقارنة بين الأرقام تعطي صورة قاتمة بأضعاف، إذ حسب الرئيس التنفيذي لشركة “ستاتيسكتيس ليبانون” ربيع الهبر، إن أرقام الذين يرغبون في الهجرة أكبر من تلك الموجودة في الإحصاء المركزي.
يكشف الهبر لـ”النهار” أن 63,2% من المقيمين اللبنانيين يرغبون في الهجرة، فيما نسبة الأسر التي يبلغ دخلها أقل من مليونين و400 ألف فهي 37,2%.
لا تحتاج هذه الأرقام الى الكثير من التحليلات أو الشرح، وسط انحدار معيشي – مالي غير مسبوق وانهيار دراماتيكي لليرة اللبنانية والقدرة الشرائية لأبسط مقوّمات العيش، ولولا “العون” الاغترابي لعدد كبير من الأسر والعائلات اللبنانية، وحتى الأفراد، لوصلت حال اللبناني إلى الحضيض.
هي ليست لعبة أرقام أو فروق، بل هي واقع يكشف أن بين الرقمين ما يؤكد أن أكثر من نصف المقيمين في لبنان يفكرون في الرحيل. وهذا وحده مؤشر خطير، ولا سيما إن أدركنا أن غالبيتهم من الشباب، وهذا منطقي، لأن الشاب يحاول أن “ينقذ” نفسه أو حياته من أيّ مجهول قاتم.
وما يؤكد هذا التوجّه، أنه وفق “الدولية للمعلومات” ثمة 77% من الشباب يفكرون في الهجرة أو يسعون إليها، وتتوقع “الدولية” أيضاً أنه بنهاية عام 2022 قد يكون رقم الهجرة وصل الى أكثر من 100 ألف لبناني!
5 أعوام وارتفاع هذا النزف البشري، على خطورته من ناحية الأرقام، يكشف أن ثمّة خطورة أيضاً من ناحية النوعية، إذ إن معظم القطاعات عانت في الأعوام الأخيرة، من ثقل الأزمة، ولم يسلم أيّ قطاع. من قطاع المصارف الى الإعلام الى الكادر الطبّي والتمريضي، وصولاً الى ميدان التعليم والتربية، كلها مهن تلاقت في الأزمة، مع هجرة أبنائها أو إقفال بعض مؤسّساتها أو فروع منها على الأقل.
من هنا، تورد “الدولية للمعلومات” جدول المقارنة الآتية، وهو كفيل وحده بأن يؤكد أن عام 2021 شهد النسبة الأكثر ارتفاعاً في الهجرة.
وفق الجدول، كانت الأعوام الخمسة الأخيرة تشهد ارتفاعاً، عاماً بعد عام، على الشكل الآتي: عام 2017، هاجر 18 ألفاً. عام 2018، 33 ألفاً. عام 2019، 66806 عام 2020، 17721 عام 2021 بلغ الرقم 79134.
هذا يعني أنه بين 2017 و2021، بلغ عدد المهاجرين 215,653 شخصاً.
وإذا ما أضيفت هذه الأرقام الى نسبة البطالة التي تخطت عتبة الـ40%، يصبح الواقع غير مطمئن!
الى التغطية الصحّية، ليست الصورة بأفضل. ونسبة الـ51% التي أوردها “الإحصاء المركزي” تكشف أن صحّة نصف اللبنانيين في خطر!
منذ بداية العام الحالي، ارتفعت الكلفة الاستشفائية ارتفاعاً ملحوظاً، ولا سيما تكلفة عقود التأمين، بعدما أصبحت شركات التأمين تتقاضى أقساط البوالص بالدولار، الأمر الذي جعل عدداً لا بأس به من اللبنانيين عاجزاً عن تأمين التغطية، وخصوصاً أن حال الضمان الصحّي أو الجهات الضامنة من تعاونيات وغيرها “ترنّحت”، هي الأخرى، بسبب الأزمة.
وفق منظمة العمل الدولية، وضمن حسابات الصحة الوطنية، فإن الإنفاق على الصحّة في لبنان تراجع الى 4,2% من الناتج المحلي عام 2022، بعدما كان 7,7% عام 2019.
أما وفق لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) فإن نسبة الأسر اللبنانية غير القادرة على الحصول على دواء وصلت الى أكثر من النصف، مما يؤكّد تلاقي أرقام انعدام التغطية الصحّية بين مصدر وآخر، وسط مشهد سوداوي للحاضر… والمستقبل. باختصار، هي أرقام تتشابك في إحصاءات ودراسات مختلفة لترسم كلها صورة فقر متعدّد الأبعاد أو الجوانب لتختصر واقعاً أليماً وآفاقاً غامضة… وهنا الخطورة الكبرى.