يروي الجندي في الجيش، هاني الذي يقارب عمره الـ45 عاماً، وهو اسم وهمي، لـ”النهار” كيف يعيش العسكري في ظل الأوضاع الصعبة. يقطن هاني في البقاع، في حين مركز خدمته في بيروت، يُداوم أربعة أيام عمل يقابلها أربعة أيام إجازة، فيما راتبه الأساسي لا يتعدى المليون ونصف المليون ليرة.
ويشير إلى أن “العسكري الذي يسكن في مناطق بعيدة عن مركز خدمته يدفع راتبه تنقلات على الطرقات، ولو أن قيادة الجيش أمّنت حافلات لتنقلهم من وإلى مراكز عملهم، فهذه الحافلات تمر على الطرقات الرئيسية، وتبقى مهمة ملاقاة هذه الحافلات من القرى والضيع على عاتق العسكري، فعلى سبيل المثال، تفصل بين منزلي والطريق الذي تمر عبره الحافلة 13 كيلومتراً، فأضطر إلى التوجّه نحوها بسرفيس تبلغ كلفته 40 ألفاً، وفي بعض الأحيان، أدفع “سرفيسين”، أي 80 ألفاً، لأن المسافة طويلة نسبةً للقرى والمناطق، والأمر يختلف عن بيروت”.
وتابع هاني، “أدفع ما بين 40 الى 80 ألف ليرة للوصول إلى الحافلة، والمبلغ نفسه من الحافلة إلى المنزل لقضاء مأذونيتي، أما وفي حال فاتتني الحافلة، فعندها ادفع ما يقارب الـ300 ألف ليرة للوصول إلى مركز خدمتي في بيروت. وبعملية حسابية بسيطة، أفقد نصف راتبي للتنقل من وإلى مركز عملي”.
ولفت إلى أن “الأحوال في الصيف أقل صعوبةً منها في الشتاء، إذ لا مدارس ولا تدفئة، لكنه يستذكر فصل الشتاء الذي مرّ قاسياً وصعباً، ويكشف أنّه اضطر لبيع سيارته بـ800 دولار لتأمين التدفئة لعائلته المؤلفة من ولدين وزوجة، وهو اليوم بات من دون سيارة تؤمّن له تنقلاته، والهم الأكبر فصل الشتاء المقبل، فمن أين سيأتي بالمال؟ حتى الآن لا سبيل، ويسأل بحرقة “لم أعد أملك ما يمكن بيعه لتأمين الحطب أو المازوت، ببيع حالي لدفّي ولادي؟”.
وأشار عن المدارس وتعليم طفليه، إلى أن “بعض المدارس متسامح مع العسكريين في الجيش، ويقبل ما تدفعه المؤسسة العسكرية بدل تعليم، لكن الصعوبة تكمن في نقل الأطفال من وإلى المدرسة، وهذا بات هماً جديداً مع ارتفاع أسعار البنزين”.
ورد هاني عن سبب عدم عمله في وظيفة أخرى ما دامت قيادة الجيش تسمح، بسؤال آخر، “ماذا يمكنني أن أعمل وأنا أغيب 4 أيام أسبوعياً؟ لا رب عمل يوافق على العمل أربعة أيام والتغيّب أربعة أيام أخرى، مع العلم أنني مستعد للعمل أينما كان، كنادل في مطعم، أو مُعد قهوة على “إكسبرس”، لكن ما من وظيفة تُذكر في المنطقة”.
وأضاف في هذا الإطار، “الطموح بات شراء آلية توك توك والعمل كسرفيس في المنطقة، لكن سعره 3,000 دولار، فمن أين لي أن أؤمّن المبلغ؟”.
وتلقّى عناصر الجيش مساعدات مالية وعينية، إلّا أنها، وبحسب هاني، لم تكن كافية لو أنها سدّت جوع الأطفال، وقد توقفت أساساً، ويشير إلى أن “المساعدات المالية تمثّلت بمبلغ قارب الـ3 ملايين ليرة، تقاضاها العسكريون مرتين فقط ثم غابت”.
وذكر هاني أن “تراجع الأحوال الاقتصادية ينعكس مباشرةً على غذاء الأسرة وأسلوب عيشها، وعلى سبيل المثال، لم نشتر اللحوم منذ أكثر من سنة ونصف، وتغيب الطاقة الكهربائية عن منازلنا لعدم قدرتنا على سداد فواتير أصحاب المولدات، وأعمد إلى تشريج لمبة لدى جارٍ لي من أجل الإضاءة ليلاً”.
وينعكس هذا الأمر على المعيشة في الخدمة أيضاً، إذ يكشف هاني أن “الغذاء غير كاف لعناصر الجيش كافةً، وعلى الأثر، تقوم بعض الألوية بتخفيض ساعات عمل بعض العناصر لتوفير الغذاء ونقله إلى ألوية أخرى لا يمكن تخفيض ساعات عمل عناصرها، لكن اللحوم أيضاً تغيب عن الطعام، والوجبات باتت سيئة الجودة ودون طعم، لكن لا حل لنا ولا قدرة لشراء الطعام من الخارج”.
وقال عن تفكيره بترك خدمته والفرار، إن “آخر احتمال قد يفكّر فيه هو الفرار، لحم كتافي من الدولة، لا يجوز أن أترك بهذه الطريقة، كما أن الأزمة ستُفرج يوماً، ولن ألجأ لهذا الخيار إلّا في حال عجزت عن تأمين الخبز لأسرتي، لكنني أفكر بتقديم تسريحي عند فتح الباب، علّني أجد عملاً آخر يؤمّن لي حياةً كريمة”.
وقال سامر، وهو اسم وهمي لعنصر آخر يقطن في الشوف ومركز خدمته في البقاع. وهو شاب عشريني، مجنّد في الجيش، تطوّع قبل بضع سنوات، لـ”النهار” إن “راتبه لا يكفيه كلفة نقله من وإلى مركز خدمته، الأمر الذي يدفعه في بعض الأحيان إلى قضاء مأذونيته في المركز لتوفير أجرة الطريق في حال انتهى راتبه قبل نهاية الشهر، فيأتي إلى منزله مرّة كل مأذونيتين”.
ويعمل سامر عملاً إضافياً داخل وخارج الخدمة، فهو حلاق شعر للرجال، يحلق شعر زملائه في الخدمة لقاء بدل، ويعمل في صالون حلاقة أثناء مأذونيته. وإلى ذلك، يعمل في جمع الحديد لبيعه خردة إلى بياعي الحديد علّه يجني القليل من المال.
ولا يختلف الوضع المأسوي لسامر عن وضع هاني، سوى أنّه غير متأهل ويقطن في منزل ذويه، وبالتالي المصروف أقل، لكنّه يجد صعوبة في تأمين المبلغ عند كل استحقاق أو أمر طارئ، وقبل فترة، أصاب عطلٌ هاتفه الخليوي، فاضطر إلى الاستدانة لشراء هاتف أقل من عادي، بهدف تسيير أموره لا أكثر.
وأشار سامر إلى أنّه يضع احتمال ترك العسكرية نصب عينيه، لكنّه ينتظر استكمال أوراقه للسفر إلى الخارج، مع العلم أنّه يملك جنسية أخرى، يعمل وفق أوراقها الثبوتية للخروج من لبنان، لأنّه لا يُمكن أن يسافر طالما أنّه عسكري.
رائد (اسم وهمي أيضاً)، هو عسكري آخر في الجيش، يقطن في النبطية ويخدم في بيروت. يعاني معاناة هاني وسامر. يعمل وفق دوام بشكل يومي، لكن الظروف دفعته إلى اللجوء الى عمل آخر لتأمين لقمة العيش، بدوام ليلي يومياً، فيبدأ نهاره باكراً ولا ينتهي قبل منتصف الليل.
ويعبّر رائد عن تعبه بتنهيدة، ويقول إن العمل بوظيفتين مُنهك للجسد والنفسية، لكن لا حل، ثمّة عائلة يجب أن أعيلها، مع العلم أن التقديمات والمساعدات من الجيش ليست كافية.
وباتت الحياة أكثر من قاسية على هؤلاء الجنود الذين يسهرون على الأمن والأمان. يقدّم المجتمع الدولي المساعدات للجيش، لكن من الواضح أنها غير كافية، فيما المطلوب تحسين ظروف عيش العسكريين لأن الجيش يكاد يكون المؤسسة الوطنية الوحيدة المتماسكة في ظل تهاوي كافة مؤسسات الدولة وقطاعاتها، فيما انهيارها يعني دخول لبنان في نفق أشد ظلمة من الحالي، يفتح الباب على الفوضى الأمنية وتفلّت واسع النطاق، ومن يدري، قد يعود زمن “بوسطة عين الرمانة”.
المصدر: النهار