في حال غليان غير مسبوقة، يوّدع لبنان عام 2019 بكل مآسيه ودون أن يتخلّى عن أزماته المتشعبة التي تفجّرت قبل شهرين وفجّرت غضب اللبنانيين، وبدت حتى الآن، مغايرة لإنتظارات المجتمع الدولي المتأهب للمساعدة رغم ترقبه تطوّر مسار الأوضاع، وخصوصا على صعيد هوية الحكومة العتيدة وخيارها السياسي وبرنامجها الاقتصادي والمالي.
منذ ثورة 17 تشرين، تنحو الأزمات نحو تفاقم قاتل لفرص الخلاص، حيث تضيق تباعا طاقات الفرج وتُستبعد الصدمات الإيجابية التي كان يفترض أن تشكّل “حبل نجاة” لبلد ساقته سلطته السياسية نحو الإفلاس، وفق حدود تخطّت المال، لتطول في الحال اللبنانية “الفريدة”، كل مفاصل الحياة العامة.
مشكلات مستعصية تواجه الرئيس المكلّف حسّان دياب الذي رفضته الثورة عقب تكليفه وقبل تأليفه حكومة ينتظر المجتمع الدولي برنامجها الإصلاحي، فيما “الغنج” السياسي مستمرّ على خلفية تقاسم السلطة رغم مخاطر تحوّل لبنان منكوبا. معوقات تعترض العلاقة ما بين المصارف والمودعين بعد انعدام الثقة التي لطالما حكمت قنوات التواصل الثنائية، فيما تقاذف المسؤوليات وحصرها بمصرف لبنان على خلفية “صمت” الحاكم لرغبته في “لملمة” حال الفوضى بعد ضيق الخيارات ما بين “الإفلاس” و”شراء الوقت”، يستمرّ في تشويه الحقائق ويؤكد مجددا تخاذل السياسيين عن المسارعة إلى ملاقاة الإنقاذ والالتزام بتسديد الاستحقاقات.
الحلقة المفقودة تكمن في تلبية التهافت لسحب الأموال بعد حركة تحويل وسحوبات إلى الخارج قُدّرت بنحو ملياري دولار (2% من إجمالي الودائع)، في عمليات أثارت الشبهات والمواقف والتسريبات، وقد يكون أبرزها ما يفيد بحسب معلومات قضائية، “أنه يجري العمل على ملاحقة مديري مصارف تورّطوا في عمليات تهريب أموال إلى الخارج في الآونة الأخيرة”.
ورغم شيوع صفة الأموال “المهرّبة” أو “المنهوبة”، ثمة إستحالة في تلبية السحوبات النقدية للمودعين بسبب “القدرة المحدودة” للمصارف على تحريك أموالها المودعة إما لدى المصارف المراسلة في الخارج أو لدى مصرف لبنان، أو الموظفة في السندات الحكومية أو المقرضة للقطاع الخاص. لجنة الرقابة على المصارف ترى أخطاء تقنية في المطالبة بـ”جلب الـ11 مليار دولار من الخارج”، فالمصارف عاجزة عن طلب توظيفاتها بالعملات المودعة لدى المصارف المراسلة، والرقم غير صحيح “لأنه إن صحّ، فستكون المصارف بألف خير وقادرة على تلبية طلب زبائنها”.
خروج الأموال من لبنان ليس سابقة، بل يتوجب مراقبة “موجبات الهروب” المتكررة عبر الزمن، ولا سيما في الـ1984 و1985 و2005 و2006 و2007 و2017 (استقالة سعد الحريري من السعودية)، والناجمة عن أزمات سياسية ورؤى حكومية غير واضحة. ولأن الأزمات تشهد دوما تحويلات مالية، “وُجدت المصارف اللبنانية في الخارج بغية استقطابها وإعادتها مجددا إلى الداخل بعد حلقات الانفراج”. وهذا ما ينطبق عليه وصف “الهروب” وليس “التهريب”.
مصارف لبنان ليست مفلسة، “بل عاجزة عن مواجهة السحوبات النقدية في أمد قصير، لأن توظيفاتها هي لآجال طويلة”. لكن ثمة تحفظ على “قصور مصرفي” في إدارة الأزمة، إذ كان يتوجب مراعاة الطلبات والتمييز بين الحاجة إلى السحب والتحويل والرغبة في إكتناز المال. وهذا ما أنعش السوق النقدية وجعلها الأقوى في عمليات التداول اليومية.
وفق بعض الأرقام، بلغ إجمالي الأموال الخارجة من المصارف على مدى العام 2019، نحو 15 مليار دولار، نصفه كان بهدف تسديد للديون والباقي لاكتنازه في المنازل. حركة يصعب تحديد هوية أصحابها من جانب لجنة الرقابة أو مصرف لبنان بحسب القانون، لأن المراقبة تقتصر على حركة الحسابات بالأرقام وليس بالأسماء.
هي أموال هاربة وليس مهرّبة، لأنه في الحال الثانية تنطبق عليها صفة “التبييض” الذي يأتي من مصدر المال لا من حركة إنتقاله. أموال نظيفة وليست مشبوهة، أرادت تجنب واقع سياسي مأزوم، واقتصرت على تحويل بعض المساهمين جزءا من ودائعهم وليس رساميلهم التي تشكّل مجتمعة نحو 24 مليار دولار.
فعلٌ يؤخذ على المصارف التمادي به والتغاضي عن تطبيق القوانين. فالسؤال عن القانون الذي تمّ الإستناد إليه لتحويل أموال وحجبها في عمليات أخرى، في سلوك يندرج في خانة “تبييض الأموال”، وهي مسؤولية تقتصر على المصارف وحدها، في ظل رصد مصرف لبنان ولجنة الرقابة وهيئة التحقيق الخاصة تلك التحويلات بالأرقام دون هوية أصحابها. وللتحقق من الشكوك، يُناط بالقضاء مهمة الطلب من حاكم مصرف لبنان تكليف هيئة التحقيق المخوّلة قانونا بكشف السرية المصرفية وتجميد الحسابات في حال ثبوت التهم.
صحيح أن الأيام المقبلة ستشهد تحركا لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في اتجاه التحقق من حركة إنتقال الأموال، لكن المفاجأة ستكون خلال كانون الثاني/يناير تقول مصادر قريبة من الإدارة الأميركية، مع ترقب صدور لائحة بأسماء رنانة لنحو عشرة “فاسدين” لبنانيين، سياسيين ورجال أعمال من “الصف الثاني” ومن كل الطوائف، في إطار قانون “ماغنيتسكي” Magnitsky الصادر عام 2016 والذي يخوّل واشنطن فرضَ عقوبات على منتهكي حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم من خلالِ تجميد أصولهم.
الأموال الخارجة من لبنان وُضعت قيد التحقق لكشف ما إذا كانت مهرّبة أو هاربة. في الحال الأولى، ستُتخذ بحق أصحابها الإجراءات المطبقة من تجميد شامل في لبنان والخارج، والتوّسع في التحقيقات، وإستعادتها مجددا في حال ثبوت تهمة التبييض. وفي الحال الثانية، يفترض بالسلطة السياسية تقديم كل عناصر الإسترداد مع إعادة الإستقرار الداخلي وإستعادة الثقة التي انعدمت بفعل انحرافات حادة في الأداء العام ومتفرعاته.
“مكافحة الفساد”، شعار يرفعه المجتمع الدولي لاستعادة حقوق الشعوب المنهوبة. لبنان وقع في دائرة المراقبة الشديدة بعد زمن طويل من التفلت… خطوة أولى يؤمل في أن تتلاحق حملة شاملة لتنقية البلاد من كل الفاسدين.
فيوليت غزال البلعة – Arab Economic News