بدت بيروت أمس عيناً على تَوالي «أجراس الإنذار» من وكالات التصنيف الائتماني العالمية من أن لبنان يقْرع أبواب التعثّر وإعادة الهيكلة والانهيار ورسْمِ مجموعة الدعم الدولية خريطةَ طريقٍ واضحة لاستجابة الخارج لمَطالب السلطات اللبنانية لتفادي السقوط المالي – الاقتصادي تبدأ بـ «حكومةٍ الآن» تراعي تطلعات الشعب المنتفض وببرنامج عمل إصلاحي و«تحييدي» للبلاد عن الأزمات الاقليمية، وعيناً أخرى على ملف استيلاد الحكومة الجديدة الذي صار أمام مفترقٍ حقيقي بعد «الانعطافة» الكبرى التي شكّلها إعلانُ «التيار الوطني الحرّ» (حزب الرئيس ميشال عون) قرارَ عدم المشاركة فيها لا مباشرة ولا عبر ممثّلين عن تكتّله النيابي وانتقاله إلى المعارضة.
وعلمت «الراي» في هذا الإطار أن الاستشارات النيابية المُلزِمة لتسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة باقية في موعدها الاثنين المقبل مع تلميحٍ في بعض الكواليس إلى احتمال ضئيل بـ «تطويل مدّتها» ليومين إذا رأى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حاجة لفسحة إضافية من المشاورات.
وكشفت أوساطٌ واسعة الإطلاع لـ «الراي» أن القوى السياسية سلّمت بمعاودة تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة وإن بغالبية غير إجماعية نظراً للموقف «المُمانِع» لـ «التيار الحر» والتضامن الشكلي معه من «حزب الله».
ولم تستبعد هذه الأوساط نجاح الحريري في تشكيل حكومة اختصاصيين بلا وجوه سياسية نافرة، على أن يُصار إلى تمثيلٍ محدودٍ و«مكتومٍ» للأحزاب الرئيسية باستثناء «الوطني الحر» الذي قرر أمس الانتقال إلى المعارضة لـ «ممارسة دوره الرقابي في البرلمان».
ولفتت الأوساط نفسها إلى أن «حزب الله»سيعمل بنصيحة رسالةٍ تلقاها من عواصم أوروبية حضّتْه على اختيار مَن يمثّله مِن خارج الدائرة الحزبية وعبر شخصية جديدة غير مُستَفِزّة وتنطبق عليها صفة «التكنوقراط».
وعلمت «الراي» أن نقاشاً معمّقاً دار بين قيادتيْ «حزب الله» و«التيار الحر» في شأن قرار باسيل (الذي التقى أمس رئيس البرلمان نبيه بري) بعدم مشاركة كتلته البرلمانية في الحكومة وانتقاله إلى المعارضة الشعبية وداخل البرلمان وما قد ينجم عن هذا الخيار.
وإذ تحدّثت المعلومات عن أن باسيل أبدى إصراراً على عدم المشاركة، أشارتْ إلى أن «حزب الله» عرض مساوىء الخروج من السلطة استناداً إلى تجارب اختبَرَها ولا سيما حين استقال الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة.
ورغم أن رئيس «الوطني الحر» مصمّم في «دوره الجديد» على نصْب كمائن للحريري وحكومته في البرلمان لاستنهاض شعبيته المتصدّعة، فإنه سمع، بحسب المعلومات، من «حزب الله» نصائح بعدم تكرار الخطأ الذي ارتكبه بتحالفه مع «القوات اللبنانية» في ما عُرف بـ «تفاهم معراب».
واستغربت دوائر مراقبة في بيروت لجوء باسيل إلى المعارضة في عهدٍ يترأسه مؤسِّس تياره (الوطني الحر) وزعيمه التاريخي وكأن في الأمر «نهاية مبكرة ومكتومة» للتجربة العونية في الحُكم الذي يعارض نفسه بنفسه.
وربطتْ هذه الدوائر قرار باسيل بانكشاف تراجعاتٍ عميقة في شعبيته بعدما كان انتقل من المعارضة إلى الموالاة مع تسلُّم عون رئاسة الجمهورية وخصوصاً بعد انفجار «ثورة 17 أكتوبر» ونزول اللبنانيين إلى الشارع في احتجاجاتٍ لم تهدأ منذ 58 يوماً.
ورغم أن رئيس «الوطني الحر» استمرّ وزيراً على مدى نحو 10 أعوام، وشكّل «رئيس الظلّ» في الأعوام الثلاثة الماضية، فإنه حسم خياره بالانتقال إلى المعارضة وكأن لسان حاله «دعْ الحريري يُكابِد نتائج سياساته التي أدت إلى ما هو عليه الوضع في لبنان».
وفي حين أبدى «حزب الله» على مدى الأزمة الحكومية إصراراً منقطع النظير على عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة لأسباب داخلية وخارجية، وأعطى الضوء الأخضر في هذا الشأن عشية الاستشارات المُلْزمة فإنه لن يجعل زعيم «المستقبل» طليق اليديْن وخصوصاً أنه يُحاذِرُ سقوطَ لبنان في قبضة صندوق النقد الدولي.
وكانت إشارتان بارزتان سُجّلتا واعتُبرتا في سياق تعزيز الاتجاه لحسْم مسار التكليف الاثنين للحريري وانطلاقِ عجلة التأليف ما لم تحصل مفاجآت غير محسوبة، وهما:
* إعلان كتلة نواب «حزب الله» عشية إطلالة أمينه العام السيد حسن نصر الله اليوم «اننا وصلنا الى لحظات الحسم في تسمية رئيس الحكومة والتفاهم حول التشكيلة الجديدة»، معتبرة «أن الاستشارات الملزمة الاثنين ستحدد النتيجة»، ومؤكدة أن «صون السيادة الوطنية واعتماد منهجية جديدة لمقاربة الشأن النقدي والمالي بعيداً عن الوصايات الأجنبية، هي المعايير التي ستعتمدها الكتلة في مرحلتيْ التكليف والتأليف ومن ثم في تقييم الحكومة المرتقبة».
* والثانية إجراء الحريري اتصالاتٍ بدا صوغُ مضمونها حمّال أوجه وإن اعتبرته الأوساط السياسية مؤشراً إلى تعاطي زعيم «المستقبل» مع المرحلة من باب وقوفه على أبواب العودة إلى رئاسة الوزراء، وتحديداً لجهة اتصاله بكل من رئيس البنك الدولي دايفيد مالباس والمديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستينا جيورجيفا حيث عرض معهما للمصاعب الاقتصادية والنقدية التي يواجهها لبنان.
وأكد الحريري لكل من مالباس وجيورجيفا التزامه «إعداد خطة انقاذية عاجلة لمعالجة الأزمة، بانتظار تشكيل حكومة جديدة قادرة على تطبيقها، وبحث معهما المساعدة التقنية التي يمكن لكل من البنك وصندوق النقد الدوليين تقديمها في إطار إعداد هذه الخطة». كما بحث مع رئيس البنك الدولي «إمكان ان تزيد شركة التمويل الدولية التابعة للبنك مساهمتها بتمويل التجارة الدولية للبنان في اطار الجهود التي يبذلها الحريري لتفادي أي انقطاع في الحاجات الأساسية المستوردة بفعل الأزمة».
وجاء هذا التحرك العاجل لرئيس حكومة تصريف الأعمال على وهج مجموعة تطوراتٍ اعتُبرت بمثابة «ناقوس خطر» حيال الواقع المالي – الاقتصادي وأبرزها:
* خفض وكالة «فيتش» تصنيف لبنان إلى «CC»، معتبرة أن هذه الخطوة تعكس نظرةً إلى احتمال حصول إعادة هيكلة للديون أو التعثر، وذلك بفعل عدم الاستقرار السياسي وقيود «الأمر الواقع» على الودائع والتحويلات، والثقة المهتزة بالقطاع المصرفي ما سيؤثر على التدفقات المالية من الخارج، إلى جانب ما يشكله بروز السوق الموازية للصرف وفشل مصرف لبنان في الوفاء بكل التزاماته بالعملات الأجنبية من إشارات إلى تَعاظُم الضغوط المالية، ناهيك عن تأخُّر تشكيل الحكومة وصعوبة توقُّع مساعدات خليجية للبنان «بعدما ضعفت علاقات بيروت بشركائها الخليجيين في الأعوام الماضية نتيجة التأثير المتصاعد لـ»حزب الله«، الوثيق الصلة بإيران، كجزء من الحكومة في لبنان».
* إعلان وكالة «موديز» خفض التصنيفات الائتمانية الأساسية المستقلّة لبنك «عودة»، «بلوم بنك»، و«بيبلوس بنك» من درجة CAA2 إلى CA، موضحة أن «الدافع وراء هذا الخفْض هو دفْع جزء من الفائدة على الودائع بالعملات الأجنبية بالعملة المحلية من المصارف العاملة في لبنان استناداً إلى تعليمات مصرف لبنان».
* إعلان وكالة «بلومبيرغ» أن اتجاه لبنان إلى إعادة هيكلة ديونه المقدرة بـ87 مليار دولار هو مسألة وقت بالنسبة إلى عدد كبير من حاملي السندات.
وتقاطعتْ هذه الإشارات غير المُريحة مع الخلاصات الإيجابية «مع وقف التنفيذ» التي انتهى إليها اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان في باريس الأربعاء والذي لفت غياب المملكة العربية السعودية عنه، وتحديداً لجهة رسْم خريطة طريق واضحة كي يستجيب المجتمع الدولي لمطالب بيروت لمساعدته على الخروج من «الوضع الصعب للغاية»، بدءاً من تشكيل حكومة «ذات صدقية تأخذ في الاعتبار مطالب الشعب اللبناني على صعيد الاصلاحات»، مع إطلالة البيان الختامي على السياسة المرتقبة للحكومة الجديدة لجهة «تطبيق سياسة النأي بالنفس عن الصراعات والتوترات الاقليمية».
الراي