أمّا العبارة الوحيدة الصحيحة فهي أنّ على الحكومة المستقيلة أن تتصرف وكأنها غير مستقيلة… إلى أن يجري تعويمها مجدداً أو تولد أخرى مستنسخة عنها. وهذا هو موقف «الثنائي الشيعي» وحليفه المسيحي في السلطة، «التيار الوطني الحرّ»، لأنه لا مجال لحكومة أكثر ملاءمة له في هذه المرحلة.
يعرف هذا الفريق أنه سيكون عالقاً بين خيارات صعبة إذا تخلى عن «حكومته» الحالية. وحتى حكومة اللون الواحد التي نصَحَ البعضُ بها ليست قابلة للحياة. وهي ستسقط فوراً تحت وطأة عقوبات أميركية قاسية تستهدف البلد بكامله وتؤدي إلى تلاشيه اقتصادياً ومالياً وسياسياً.
وأمّا حكومة التكنوقراط الصافية، وفق ما يطالب به الحراك الشعبي، فتؤدي إلى إضعاف نفوذ «الحزب» بقوة. لذلك هو يتجنّبها أيضاً ويفضِّل، بدلاً منها، حكومة تسمّى تكنو- سياسية، أي يكون فيها وزراء «صقور» محسوبين على قوى السلطة وآخرون من التكنوقراط يحظون برضاها أو يكونون قريبين منها.
في هذه الحكومة تكون الفاعلية والنفوذ للصقور طبعاً… ولو لم يكونوا أكثرية، ما دام التكنوقراط لا يشاكسون ولا يعاكسون ولا يطلبون أكثر مما يُعرَض عليهم.
أي انّ هؤلاء يشبهون الوزراء التكنوقراط الموجودين اليوم في الحكومة الحريرية، والذين يرتبط قرارهم بأحزاب وقوى سياسية. ولذلك، إنّ «خلطة» الحكومة التكنو- سياسية، كما هي مطروحة، تعني عملياً عودة الحكومة ذاتها.
وحتى مفهوم حكومة التكنوقراط الصافية فيتم تسويقه في شكل مشوَّه تماماً. فالشخصية التكنوقراط يتم تصويرها وكأنها تمتاز فقط بأنها متخصصة في حقلٍ علمي معيّن، وهي ستأتي إلى الحكومة لتضع كفايتها العلمية أو المهنية في خدمة وزارة معينة. وهكذا، تكون المشكلات محلولة…
وهذا المعنى للتكنوقراط يسخّفه تماماً. والأرجح أنه «مدسوس» من جانب القوى السياسية. فالمقصود أساساً بالوزير التكنوقراط هو:
– أولاً: أن يكون ذا سمعة حسنة ولا شُبهةَ إطلاقاً حول أدائه.
– ثانياً: أن يكون قراره مستقلاً تماماً عن أي جهة سياسية أو طائفية أو مذهبية.
– ثالثاً: أن تكون له الجدارة التي تؤهله تولّي وزارة معينة.
وأمّا الاكتفاء بمعيار واحد من صفة «التكنوقراط»، وهو «البراعة العلمية»، ففيه خبث كبير. وفي الحكومة الحالية، المستقيلة، ما يكفي من «البارعين» بلا جدوى.
ولكن، هل «حزب الله» وحده خائف من حكومة التكنوقراط لأنها تضعف مواقعه وتقلّص نفوذ إيران، أم انّ لدى شركائه في السلطة اعتباراتهم الداخلية أيضاً؟
بالتأكيد، هؤلاء الشركاء لهم مخاوفهم من حكومة التكنوقراط الحقيقية، إلى حدّ أنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليهم. وهناك 3 أسباب أساسية لذلك:
1- لأنّ الثروات والحصص التي يمسِكون بها اليوم سيفقدونها تماماً في ظل حكومة التكنوقراط.
2- إستتباعاً، لأنّ الزعامات السياسية التي تستند إلى المنافع السلطوية ستفقد ورقة أساسية…
3- وهذا هو الأشدّ خطراً، لأنّ التكنوقراط المستقلين سيراعون القانون، أي انهم سيديرون ملفاتهم بطريقة شفافة ويتعمقون في المشكلات الحقيقية وأسبابها.
وهذا يقتضي منهم الرجوع بالملفات سنوات إلى الوراء، ما يشكّل كارثة للطاقم السياسي المُمسِك بالسلطة والمعنيّ بالفضائح.
لهذا السبب، تخاف قوى السلطة من أي تركيبة حكومية لا تخضع لسيطرتها. وإذا كانت الصورة الغالبة توحي أنّ «حزب الله» هو المحارب الأكبر لحكومةٍ من هذا النوع، لضرورات استراتيجية، فالصحيح هو أنّ كل أركان السلطة ينتابهم الرعب منها، بدرجات وأشكال مختلفة.
وللدلالة إلى ذلك، يطرح أحد المتابعين بعض الأسئلة: ماذا يحصل إذا تولّى وزراء «غير منضبطين سياسياً» بعض الوزارات «المقفلة سياسياً» على فئات معينة منذ سنوات، والتي يُثار الجدل حول عملها، كالطاقة والاتصالات والأشغال وسواها؟
وهل يمكن أن تخرج وزارة المال «أمّ الوزارات» من تحت العباءة السياسية لتصبح مكشوفة على الملأ، ربما للمرّة الأولى منذ ما قبل الطائف؟
يُقدِّر بعض الجهات حجم الثروات التي جناها من الدولة زعماء لبنان وعائلاتهم وأنسباؤهم وأزلامُهم وأزلامُ أزلامِهم في الوطن والمهجر، على مدى عشرات السنين المنصرمة، بنحو 800 مليار دولار.
إذا كان هذا الرقم دقيقاً، فعلى الأقل، هناك 10% أو 20% منه مكشوف ومعروف ولا يحتاج إلى جهد كبير لوضع اليد عليه، أي ما بين 80 مليار دولار و160 ملياراً.
وهذه المليارات هي كنز وطني يفوق بحجمه وأهميته مكتشفات لبنان النفطية والغازية. واسترجاع هذا الكنز لا يحتاج إلى شركات أجنبية ولا إلى ترسيم حدود مع إسرائيل أو مع سوريا. فقط يحتاج إلى قرار يتخذه الشجعان الذين يتمتعون بالشفافية والنظافة… إذا امتلكوا السلطة: التنفيذية ثم التشريعية والقضائية.
مَرتا مَرتا… العناوين كثيرة. ولكن، يمكن تقدير حجم التعقيدات الموضوعة أمام تأليف حكومة حرّة ونظيفة، والكميات الهائلة من الخِدَع البصرية والسمعية المواكبة لهذه المسرحية.