مع تصاعد التظاهرات الشعبية العارمة ضد السلطة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، كان هناك من يراقب سلوك الجيش اللبناني، وطريقة تعامله ليس فقط مع تحرّكات المحتجين على الارض، وانما ايضاً مع مطالبهم المرتفعة السقف. من العلامات الفارقة التي طبعت الانتفاضة الشعبية على الطبقة السياسية الحاكمة هو أنّ كثراً من المشاركين فيها ناشدوا الجيش التدخّل المباشر لقلب الطاولة على طريقته، إما بانقلاب عسكري ينقل مقاليد الحكم الى العسكر، وإما بتشكيل حكومة عسكرية تتولّى خلال مرحلة انتقالية التمهيد لاجراء انتخابات نيابية مبكرة وإعادة انتاج السلطة.
من الواضح أنّ استنجاد المنتفضين بالجيش وقائده العماد جوزف عون للخروج من نفق الأزمة، انما يعكس قبل كل شيء انعدام الثقة الشعبية بشكل كامل في الطبقة السياسية، بحيث أنّ الجمهور اللبناني صار يجد في العسكر خشبة خلاص، على الرغم من أنّ طبيعة لبنان «المفطورة» على الحرّيات والتنوّع تتعارض من حيث المبدأ مع مفهوم الحكم العسكري.
وإذا كان رهان الناس على الجيش يبدو مبرراً بعد انسداد الشرايين الاخرى في الدولة وافلاس السلطة التي باتت معدومة الصدقية عقب الفرص الضائعة التي فرّطت بها عبر سنوات طويلة، إلّا ان تعقيدات كثيرة، سياسية وطائفية، تحول عملياً دون إمساك المؤسسة العسكرية بزمام الأمور كما تتمنّى شريحة واسعة من المتظاهرين، وبالتالي فإنّ مقولة إنّ «الجيش هو الحل» لا تنسجم حتى إشعار آخر مع خصوصية الواقع اللبناني.
ولئن كانت الواقعية تقتضي عدم تحميل الجيش أكثر مما يتحمّل، غير انّ ذلك لا يقلّل من أهمية البيان اللافت الذي صدر عن قيادته مع بدء التحرّكات الاحتجاجية، خصوصاً لجهة تأكيد «التضامن الكامل مع المطالب المحقة»، ودعوة «المتظاهرين المطالبين بحقوقهم المرتبطة مباشرة بمعيشتهم وكرامتهم الى التعبير بشكل سلمي وعدم السماح بالتعدّي على الاملاك العامة والخاصة».
بدا واضحاً من هذا البيان الذي نُسج بعناية، أنّ الجيش أعلن انحيازه الى جانب المتظاهرين ومطالبهم في مواجهة السلطة السياسية، وهو موقف ينطوي على دلالات هامة في مضمونه ودلالاته، علماً أنّ ما تسرّب من الورقة الاقتصادية التي وضعها الرئيس سعد الحريري بالتوافق مع القوى السياسية، دفع البعض الى الاستنتاج أنّ هناك محاولة لـ»تحييد» الجيش عبر بند يلحظ الغاء جميع ما تمّ خفضه من معاشات التقاعد للجيش والقوى الامنية.
وأبلغت مصادر عسكرية، رفيعة المستوى، الى «الجمهورية»، انّ «ما ينادي به المتظاهرون هو محق ومشروع، والجيش يتفهم نقمتهم ويتعاطف مع صرختهم الصادقة التي تعبّر عن وجع حقيقي»، لافتة الى أنّ «وضع العسكريين ليس افضل من وضع المحتجين، بل لعله أسوأ، بعدما وصلت الاجراءات الخاطئة في لحظة ما الى حد حرمان الجيش من احتياجاته الاساسية كالتغذية والمحروقات، إضافة الى الاقتطاع من الحقوق المكتسبة والرواتب التقاعدية، وبالتالي فإنّ صرخة المتظاهرين تعكس أيضاً ما يشعر به العسكريون من إجحاف».
وتشيد المصادر بما حقّقه الحراك الشعبي العابر للمناطق من كسر للحواجز الطائفية والمذهبية والسياسية، مشدّدة على انه لا يمكن للجيش المنبثق أساساً من هذا النسيج الشعبي ان يكون ضد ناسه أو أن يسبح عكس التيار الجماهيري، «بل الطبيعي والبديهي ان ينسجم مع المطالب المرفوعة».
وتشير المصادر العسكرية الى انّ من «واجب الجيش حماية المتظاهرين السلميين وحقهم في التعبير عن مطالبهم، وكذلك هو معني في الوقت نفسه بحماية حرّية التنقل وحرمة الاملاك العامة والخاصة والطرقات الاساسية ومنع أي اعتداء عليها»، موضحة انّ «الجيش اضطر قبل ايام الى التصدّي لبعض المندسين والزعران الذين لجأوا الى أعمال التكسير والسلب، وهؤلاء بالتأكيد لا يمثلون المتظاهرين الحقيقيين ولا يخدمون قضيتهم، بل هم يسيئون اليهم والى حراكهم المشروع دفاعاً عن حقوقهم».
وتعتبر المصادر، انّ دعوة المتظاهرين الجيش وقائده الى التدخل لانقاذ الموقف انما ترمز بالدرجة الاولى الى «الثقة المطلقة من قبل الشعب اللبناني بالمؤسسة العسكرية واقتناعه بأنّها لا تزال من المؤسسات القليلة النظيفة التي يمكن الركون اليها والاتكال عليها»، لافتة الى انّ الجيش يبدي كل التقدير لهذا الموقف الشعبي حياله، «إلّا انّ ما يطالبه به بعض المحتجين لا يتناسب وتركيبة لبنان المرهفة والمعقدة».
وتؤكّد المصادر العسكرية انّ الجيش يراقب الموقف العام والاتجاهات التي سيسلكها في المستقبل، وهو سيتصرف باستمرار وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا.
(الجمهورية)