الهاجس الوحيد الذي يعيشه الحريري حالياً هو الانهيار المالي والنقدي. وأساساً، في الصفقة التي جاء بموجبها إلى السراي، قبل 3 سنوات، جرى التقاسم: هو يتعاطى بالاقتصاد والتنمية والمال، ويترك ملفات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية لـ”حزب الله”، مباشرة ومن خلال حلفائه.
راهن الحريري على أنّ التقاسم سيكون ناجحاً هذه المرّة، وأن لا عواقب كارثية له، كما التقاسم السابق بين الرئيس رفيق الحريري و”الحزب” ومحور طهران – دمشق. فالصفقة تمّت عبر طرف داخلي “وسيط” هو الرئيس ميشال عون، ما يشكّل ضمانة لها وإشارة إنذار مسبق لاحتمال سقوطها.
إذاً، يجرّب الحريري أن يتجاهل الملفات السياسية ويصبُّ اهتمامه على إبعاد شبح الكارثة الآتية من البوابة الاقتصادية والمالية والنقدية. وعندما أعلن الوزير جبران باسيل عزمه على فتح الخط بين بيروت ودمشق تحت عنوان النازحين، أطلق الحريري موقفاً رافضاً في الشكل لكنه موافق في المضمون.
وفي المبدأ، ليس لرئيس الحكومة أن يطلق العنان لكل وزير كي يأخذ على عاتقه، فردياً، معالجة الملفات التي تعني وزارته، ولاسيما إذا كانت ذات طابع استراتيجي. ومن البديهي أن تتقرّر أي خطوة داخل مجلس الوزراء مجتمعاً، لأنّ انعكاساتها تعني البلد كله.
لكن الرجل يستسيغ سياسة “النأي بالنفس” في الملفات التي “تسبِّب وجع الرأس” لأسباب عدة:
1- يريد إفهام الجميع أنّه لن يخرق تفاهم 2016 من جانبه أياً تكن المبرّرات، و”ظالماً كان أو مظلوماً”.
2 – يدرك أنّ ملف النازحين السوريين لا يُعالَج إلّا وفق منظومة تفاهمات ومصالح إقليمية ودولية، ولا ضير في أن يقوم فريق لبناني بالمحاولة من جانبه. فليجرّب ويكتشف. على الأقل، لن يحمّل أحد رئيس الحكومة، ذات يوم، أي مسؤولية عن تعطيل المحاولة.
3 – إنّ استغلال الأسد هذا الانفتاح لاستعادة بعض نفوذه في لبنان وارد. لكن الوصاية السورية الفعلية على لبنان لم تكن قائمة يوماً إلّا على تفاهمات إقليمية ودولية كبرى. ولا مؤشِّر حالياً إلى ما يسمح باستعادتها.
4 – واقعياً، إنّ انفتاح لبنان الرسمي على الأسد يبقى رهن انفتاح العرب، ولاسيما المملكة العربية السعودية، عليه. وهذا الأمر تقرِّره التطورات. فإذا فكّ العرب حصارهم عن دمشق، سيستعيد لبنان تواصله معها تلقائياً.
5 – بين المحورين المتصارعين سياسياً في لبنان: محور “حزب الله” وحلفائه، ومحور خصومه، وجد الحريري أنّ “الأسلم” له هو أن يحافظ على معادلة “عدم انحياز” لا يبرع فيها إلا الساحر:
تطمين المحور الأول بأنّه لن يخرج عن “الصفقة”، وتطمين المحور الثاني بأنّه لن يخرج عن “الثوابت”!
وفي الخضم، ينصرف الحريري لتأدية المهمّة التي تُشكّل هاجساً للجميع: تأجيل حصول الانهيار المالي والنقدي قدر الإمكان. والأحرى هو الاستمرار في “إخفاء” الانهيار الذي وقع فعلاً، من خلال الحُقَن المخدِّرة أو “الكورتيزون”. لكن المشكلة هي أنّ أصدقاء الحريري في العالم خذلوه هذه المرّة، وقالوا صراحة للبنانيين: “أوقِفوا الدلع”!
وجاءت الحرائق لتكرِّس الفضائح: لبنان الذي يعيش “على الشحادة” بالمساعدات، وصلت به الأمور إلى أن “يشحد” طائرات تطفئ الأحراج المشتعلة، فيما طائراته التي اشتراها قبل سنوات بـ14 مليون دولار تهترئ على أرض المطار، لأنّ كلفة صيانتها 450 ألف دولار سنوياً… أي ما يوازي الهدر والفساد في زاويةٍ ضيقةٍ من مصلحةٍ ثانويةٍ في دائرةٍ فرعيةٍ من وزارةٍ عادية…
هذا ما بات يعرفه العالم والمؤسسات الدولية تماماً، ولم يعد هناك مجال لـ”الشطارة اللبنانية” والمخادعة أو لتوريط المؤسسات الدولية ووسطائها بالقبول على مضض بالفساد اللبناني، كما كان يجري على مدى عقود.
الاستحقاق الأقرب هو الموازنة. وواضح فيها التخبّط ، لا لعدم وجود المخارج والأفكار، بل لرغبة في عدم كشف المستور من الفساد. وبعض النقاش الجاري في مجلس الوزراء للحصول على المال مثير للسخرية. فعبقرية الإصلاح عند أهل السلطة بدأت بالضريبة على “راس النرجيلة” وانتهت بالضريبة على “الواتساب”!
وفي النهاية، يهرب الجميع من المشكلة الحقيقية، أي الفساد الحقيقي. وثمة خياران مطروحان على الحريري حالياً:
الأول، أن يهرب من المسؤولية عن الكارثة المقبلة، فيرمي كل شيء أرضاً ويرحل عن السراي. وهذا يعني خروجه من الصفقة ومن اللعبة السياسية أيضاً، أي العودة إلى ما قبل 2016.
الثاني، أن يحافظ على التزامه الصفقة أياً تكن المبرّرات، لأنّ مصالحه كلها تقتضي ذلك. وفي هذا الحال، سيكون هو أبرز الذين يتحمّلون عواقب السقوط.
بين الخيارين، حتى الآن هو يختار الثاني. والبعض يقول: إنّ بقاءه في الصفقة ليس أمراً اختيارياً. فشركاؤه في الحكم، و”حزب الله” تحديداً لا يروق لهم إطلاقاً أن يتركهم ويبادر هو إلى “قلب الطاولة”… إلّا إذا حصل ذلك في التوقيت والطريقة اللتين يريدهما.
ربما يكون أمام الحريري سبيل آخر هو إعلان الحرب من داخل الحكومة على الفساد والفاسدين والعمل للإصلاح الحقيقي والشفافية وسيادة القانون. وطبعاً سيصفّق له صديقه إيمانويل ماكرون وكثيرون في العالم حينذاك، وسيكون ممكناً تحريك “سيدر”.
إلّا أنّ هذه المغامرة ستكون بمنزلة إعلان الحرب على الكثير من “رموز” المرحلة وأدواتها. وستفجّر مفاجآت لا أحد يعرف أين تبدأ وأين تنتهي.
فماذا سيختار الحريري؟ ليس واضحاً بعد. لكنّ المؤكّد أنه يستعدّ للأسوأ.