تشكّل الساعاتُ المقبلة اختباراً للمنحى الذي ستسلكه العلاقاتُ بين أركانِ الحُكْم في لبنان في ضوء الاضطراب السياسي الكبير الذي رافَق خروج أزمة شحّ الدولار الأميركي إلى العلن والتحركات الاحتجاجية على الواقع المالي – الاقتصادي التي دهمتْ البلاد (الأحد) وتسَبَّبَتْ بتوتّراتٍ في الشارع أُخْضِعتْ لإسقاطاتٍ سياسية.
وفيما كان سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية يقترب من استعادة هوامشه السابقة في السوق الموازية (لدى الصيارفة) بفعل توفير مصرف لبنان ما يشبه «الدولار الاجتماعي» (بالسعر الرسمي) لتمويل استيراد النفط والقمح والدواء (فاتورتها السنوية تناهز 4.3 مليار دولار)، فإنّ تَرقُّباً كبيراً سادَ لمساريْن سيحددان إذا كانت مجازفة «المركزي» بتمويل «الاستيراد الاستراتيجي» بالعملة الصعبة وما قد تشكّله من عنصر استنزافٍ لاحتياطاته أدّت نتيجتها كاملةً.
الأوّل هل سيصمد انخفاض سعر صرف الدولار في السوق المُوازية في ضوء خطوة مصرف لبنان، وسط رصْدٍ في هذا السياق لما إذا كان هذا الإجراء سيُستَتبَع من المصارف التجارية بتوفير سيولة دولارية أكبر بعد «التقنين» الذي تعتمده منذ فترة، ولا سيما في ظل اعتبار خبراء اقتصاديين أن تمويل استيراد السلع غير الاستراتيجية (أكثر من ثلثي فاتورة الاستيراد) من السوق المحكومة بالعرض والطلب يمكن أن يرْفع مجدداً سعر العملة الخضراء.
والثاني يَتَداخل مع الأول وله «تأثيرات» مباشرة عليه، من باب «عامِل الثقة»، ويتّصل بالمدى الذي ستصل إليه «المواجهاتُ السياسيةُ» المتعددة الجبهة التي اندلعتْ على تخوم بروز أول عوارض شحّ الدولار، «المتفرّع» من الواقع المالي – الاقتصادي المأزوم والذي يُسابِق مساعي لجْم انزلاقه نحو الهاوية، وهي المواجهات التي اتخذتْ شكْل «تَقاصُف» بين أكثر من طرف وتَبادُل اتهامات بالمسؤولية عن مجمل الوضع المهترئ وصولاً إلى «نبْش» دفاتر الماضي وإطلاق إشارات غير مُريحة في شأن مستقبل البلاد واستقرارها السياسي والمالي.
وشهدت الساعات الماضية ارتفاعَ منسوب التوترات السياسية التي اعتبرت أوساط مطلعة أنها جاءت «عكس سير» الحاجة القصوى إلى عملِ غالبية أطراف السلطة «يداً واحدة» لمحوِ «أضرار» الأسبوع الماضي والاستفادة من «الوقت الإضافي» الذي منحتْه خطوةُ مصرف لبنان للسلطات اللبنانية لمحاولة إتمام الإصلاحات الضرورية لتعزيز الثقة بالواقع المالي ومستقبله وبدء تسييل مخصصات مؤتمر «سيدر»، وهي الإصلاحات التي يفترض أن تواكب إنجاز موازنة 2020 (تقترب الحكومة من بتّ مشروعها) والتي تشكّل مرتكزاً لـ«فترة السماح» التي منحتْها وكالات التصنيف الدولية لبيروت قبل خفض تصنيفها.
وكان لافتاً في هذا الإطار أمران: الأوّل مضيّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه السياسي في توجيه رسائل في أكثر من اتجاه، على وقع إطلاق مسار الملاحقات القضائية – الأمنية لمروّجي ما يُعتبر إشاعات حول الاستقرار المالي والعملة الوطنية، والذي بدأ يثير انتقاداتٍ من أطراف سياسية.
فغداة الإفصاح عن ملاحظات على أداء رئيس الحكومة سعد الحريري، أكد عون في تصريح صحافي أمس أن هناك استهدافاً منهجياً للعهد، بتحريض من جهات في الخارج واستجابة من قوى في الداخل و«أنا موجود الآن في قلب المعركة، أخوضها بقوة وثقة دفاعاً عن المصالح العليا للشعب اللبناني، وكل ما أطلبه من هذا الشعب أن يقف على الحياد، إذا كان لا يريد أن يشاركني في هذه المعركة»، جازماً في معرض تفسيره دوافع التحركات الشعبية الأخيرة ومآلها «ان لها جذوراً خارجية، إلا أن أدواتها لبنانية. وأخيراً انتقلوا بالحرب علينا إلى الإشاعات».
وإذ أعلن «لا أفهم مبرر تحميل رئيس الجمهورية مسؤوليةَ ما يحدث. ثمة سلطة إجرائية موجودة ومسؤولة. الحكومة في حال أقرب إلى غياب عن الوعي، لا تعرف سوى أن تخسر الوقت»، أكد أنّ الدولار ممسوك وموجود «ومع ذلك يجب التشجيع على التداول بالعملة الوطنية في كل النواحي، بل ينبغي أن يكون استخدامها إلزامياً وفق قانون النقد والتسليف الذي يتضمن عقوبات في حق من يهدّد سلامة النقد الوطني ويمتنع عن استعماله».
والأمر الثاني انكشاف حال التوتر بين فريقيْ عون والحريري مع قرار «تيار المستقبل» (يترأسه الحريري) بإلغاء ندوة هي الأولى من نوعها كانت مقرَّرة لكوادره مع رئيس «التيار الوطني الحر» (حزب عون) الوزير جبران باسيل (في مقرّ «المستقبل») وذلك استجابةً لـ«حال غضب» عارم سادتْ صفوف «المستقبل» وقاعدته على خلفية أكثر من تغريدة للنائب زياد أسود (من التيار الحر) وصف في إحداها الحريري ورئيس البرلمان نبيه بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط بـ«مثلّث اللعنات» وأعقبها بتحميل سياسات الرئيس الشهيد رفيق الحريري مسؤولية ما آل إليه الوضع حالياً في لبنان، وذلك من دون أن يصدر أي تعليق على هذا الكلام من «التيار الحر» في ما اعتُبر تبنياً له.
وكانت كتلة «المستقبل» البرلمانية انتقدتْ «تمادي بعض الأصوات في تحريف وقائع التاريخ والتطاول على السجلّ الوطني للرئيس الشهيد رفيق الحريري ودوره الوطني في إعادة الاعتبار للدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية»، مستغربة «خروج هذه الأصوات على قواعد الشراكة في الحكم (…)».
وعلى وقع ما شكّله المناخ المحتدم من «إنذار سلبي» حيال مآل الواقع السياسي والتفاهمات الكبرى التي تحكمه وتالياً مصير الحكومة في ضوء ما تم اعتباره تلميحاً متكرراً من فريق عون بأن مجمل الملف الحكومة قد يصبح على الطاولة ناهيك عن التقارير حول مخطَّطات خارجية لإسقاط الحكومة تولاها إعلام «8 آذار»، برزت محاولات رئيس الجمهورية لاحتواء هذا المناخ، إذ نقل عنه زواره أمس حرْصه «على أفضل العلاقات بين الرئاسات» مؤكدين أن عون في كلامه عن الحكومة وغيابها قصد «أنها لم تقدم على معالجة الأزمة التي شهدتها البلاد على المستويين المالي والأمني خلال وجوده في نيويورك»، وأنه يعتبر «أن محاولات البعض تعكير صفاء العلاقات بين بعبدا والسرايا الحكومية لم تنجح لأن ما يجمع بينهما من تفاهم أقوى من أن تزعزعه الإشاعات».
الراي