جوزف الهاشم:
يقولون: أنتم تكتبون ليقرأوا وهم لا يقرأون ولا يكتبون… ونقول: الكتابة في دولة الأميِّين مخالفةٌ يُعاقِبُ عليها القانون، والمثقّفون هـمْ أَلـدُّ الأعداء للحكّام.
نحن نكتب وهم لا يقرأون… مَـنْ قال إننا نكتب لهم…؟
نحن نكتب لِـمَنْ يقرأون ولِـمنْ يفهمون إذا قرأوا…
نحن نكتب للأجيال، نكتب للّذين تكاد الثورة تحتضر في نفوسهم، نكتب لأولئك الذين يسيرون خلف الزعيم كقافلةٍ من النمل… نكتب للتاريخ، والكلمة ليست سلعة معلّبة يبطل مفعولها.
نحن نكتب تحت وطأة الهمّ والقلق والبؤس واليأس والذُلّ، كمثل مَـنْ يخـدِّرُ الوجع، حتى وإنْ كانت الكلمات كالشموع تُضاءُ وتنطفيء، فلا بـدّ من أن تُلقِّحَ الظلام بالنور.
لأنه لم يعُد هناك جَمالٌ نكتب عنه وقد شوَّهوه، نحاول أن نفضح البشاعة عند الذين يُخفون القبائح بالمساحيق.
نحاول أن نسدّد الرماية على تلك الطيور ذات الأجنحة السوداء والتي لم تحمل إلينا إلا الشؤم.
للّذين يقرأون نقول: نحن لا نكتب في سياسة الخساسة، في هذا اللبنان ليس هناك سياسة، لا علم سياسة ولا علم إِجتماع، ولا سياسيون ولا علماء، السياسة عربدةُ هنودٍ وشعوذةٌ تردّد أصداءً ضجّاجةً جوفاء.
في سياسة «النفايات» يقول سقراط: «لأنني لا أريدُ أنْ أتلّوث أحاول الإبتعاد عن السياسة».
نحن لا نتلوَّث في تحليل السياسات الخارجية كأننا نملك مفتاح تفكيك رموزها، ولا ندّعي استكشاف ما تخبِّـئهُ رؤوس الملوك، فالملوك لا رؤوس لهم، وكلّ ما نحاول استكشافه مكشوف، وكلّ ما نحاول خلْعَ الحجاب عنه فهو سافر.
نحن نكتب عن وطـنٍ حروبنا فيه لم تكن خسائرها هزيمةً بشرية بل إبادة حضارية، فبات مقبرة للأحياء ومقبرة للتراث ومقبرة لذاكرة الأرض.
نكتب عن ذلك المارد الذي بات سجين القمقم، عن ذلك الرأس الشامخ بلا عنفوان، عن الرأس الصالح بلا رجاء، نخاطب إخواننا في المنفى الذي إسمه الوطن كمثل ما خاطب الكاتب الروسي، «دوستويفسكي» أخاه في رسالة من منفاه: «من المحزن أن يعيش المرء بلا رجاء…»
نكتب عن مرحلة العُـقْم في السلالات السياسية والوطنية، عن الخلَف الذي يخجل منه السلف، عن الماضي الذي يصفَعُ عُقوقَنا… نتسكَّع، نتساءل: هل نحن أحفاد الذين ابتدعوا الحرف وعقلنوا المحيط العربي، وعصرنوا النهضة الفكرية.. أو نحن نسلٌ لقيطٌ حبلَتْ به الأمهات بالزنى التاريخي…؟
نحن نكتب، لنستعيد شخصيتنا، وحصيلة تاريخنا الحضاري، لتحطيم الأوثان التي رفعوها أمامنا حتى لا نتعبّد لها.
الكاتب في زمن الإنهيارات الإنسانية والوطنية والسياسية والإيمانية والعقلية والخلقية، هو الذي يلأليءُ المصابيح في الدامسات انفراجاً نحو إشراقة الأمل ومشارف المستقبل، وهو الذي يبدّد الهلع على المصير وسط حضارة مزيّفة ومدنيّـة متوحشة.
من أجل ذلك نكتب، وما هـمَّ إنْ كانوا يقرأون أو لا يقرأون، المهمّ أن يسقط الذين يختمون تطوّر التاريخ بالشمع الأحمر، وألاّ يظل شرط البقاء في لبنان، أن يكون الإنسان فيه: ميليشياوياً أو حاكماً أو لصّاً.