“… التصْفير»، عبارةٌ تكاد أن تكون «الرقم واحد» في «قاموس» المَشهد السياسي في بيروت هذه الأيام، والذي يَتَقاسَمُهُ همٌّ داخلي يختصره عنوانُ «الإنقاذ» المالي – الاقتصادي عبر «سلّم النجاة» الذي يشكّله مؤتمر «سيدر»، وهمٌّ خارجي لم يغِب يوماً عن «شيفرة المواجهات» متعدّدة الوجه التي تحكم الواقعَ اللبناني وترتبطُ في خلفياتها بـ«صراعِ الفيلة» في المنطقة، وأحدُ أشدِّ فصوله وطأةً على «بلاد الأرز» معركة «حتى النهاية» بين الولايات المتحدة وإيران وأذرعها وعلى رأسهم «حزب الله».
وفيما يتخذ قرار «تصفير» صادرات طهران النفطية ومحاولات ليّ ذراعها بالعقوبات مجراه التصاعُدي تحت عنوان «إعادة إيران إلى داخل إيران»، لم يَخْرج لبنان بالكامل «من تأثير» الدلالات التي انطوى عليها إخراجُ الجبهة الجنوبية من وضعيّة «صفر توترات» (منذ 2006) وما طرحتْه من مخاوف بإزاء خلفيات معاودة تفعيل هذا «الفتيل» بالاتجاهين وإذا كان قرار تل أبيب بـ«توحيد الجبهات» في سياقِ استهداف «المحور الإيراني» (سورية والعراق ولبنان)، ثم رسْم «حزب الله» بالنار «معادلة ردعٍ» جديدة، يعني أن مرحلةَ «الضربات الجراحية» المتبادَلة ستستمرّ وإمكان أن «تخْرج عن السيطرة» بقرارٍ كبير أو خطأ… جسيم.
ويسود تَرقُّبٌ ثقيلٌ للمسار الذي ستعتمده اسرائيل بعدما وضعتْ على الطاولة و«تحت النار» ما اعتبرت إنه مشروع تطوير الصواريخ الدقيقة لـ«حزب الله»، وسط رصْدٍ لكيفية مواءمة لبنان الرسمي بين موقفه الذي ترى أوساط مطلعة أنه وفّر غطاء ثميناً للحزب ووضعيّته خارج الدولة، وبين قدرته على مخاطبة الخارج بـ«لغة» الشرعية الدولية التي أصيب عنوانٌ رئيسي لارتباط بيروت بها (القرار 1701) بتشظياتٍ كبيرة عبر إعلان السيد حسن نصرالله سقوط «الخطوط الحمر» في المواجهة (وإن دفاعياً) وفي ساحة الردّ «الذي سيحصل من الآن وصاعداً في أرض فلسطين المحتلة».
وإذ سيكون هذا الملف حاضراً في بيروت في الساعات المقبلة بمحادثات الوسيط الأميركي الجديد في ملف ترسيم الحدود البحرية وبت النزاع البري بين لبنان واسرائيل السفير ديفيد شنكر إلى جانب موضوع العقوبات التي شملت نسخة جديدة منها قبل أيام شبكةً، أعلنت واشنطن ان «فيلق القدس» يقودها ونقلتْ كميات من النفط بمئات ملايين الدولارات لمصلحة نظام بشار الأسد، و«حزب الله»، فإنّ جانباً آخَر من الاهتمامات في بيروت بقي مُنْصَبّاً على عملية «تصفير المشكلات السياسية» والتي شهدتْ في اليومين الأخيريْن دفْعاً على خطّيْ تطبيع العلاقات بين «الحزب التقدمي الاشتراكي» وبين كلّ من «حزب الله» و«التيار الوطني الحرّ».
ولا يمكن فصْل هذه الاندفاعة «التبريدية»، بحسب الأوساط المطلعة، عن الحاجة الماسّة لتوفير «بوليصة تأمينٍ» داخلية لـ«قطار» الإصلاحات الملحّة التي قَرَع «ناظِرُ» مؤتمر «سيدر» المكلف متابعة تنفيذ مقرراته الموفد الفرنسي بيار دوكان ما يشبه «جرس الإنذار» بإزاء أي تلكؤ عن السير بها سريعاً، وسط اقتناعٍ عبّر عنه خبراء اقتصاديون وماليون بأن الصراعات السياسية، وبعضها خلفياته حزبية أو شخصية ضيقة، تشكّل عنصر الاستنزاف الأكبر للواقع المالي ولا سيما أن الاستقرار السياسي يُعتبر من أبرز عوامل الثقة للمستثمرين والمانحين، مذكّرين بأن أثمان تعطيل استحقاقات دستورية على مدى الأعوام الـ14 الأخيرة كانت من الأكثر كلفة مالياً واقتصادياً إلى جانب محطات أمنية وعسكرية و«حربية» وانكشاف الوضع اللبناني على صراع المحاور في المنطقة.
ورغم المحاولات الجدية لإعطاء قوة دفْع كبيرة لمسار الإصلاحات التي لا مفرّ منها لتسييل مقررات «سيدر» والتي يحتاج لبنان لإعطاء إشارات عملية بانطلاقها خلال الأسابيع القليلة المقبلة بما يترجم «إعلان حال الطوارئ» الذي أُطلق أخيراً، فإن علامات استفهام تُطرح حول مدى قدرة الطبقة السياسية على «الخروج من جِلْدها» وملاقاة المرحلة «الخطيرة» بما يُنْهي حال «جَلْد» المال والاقتصاد بالسياسة ويوقف «الموت البطيء» لبلدٍ يبدو، في رحلة العبور الوصول إلى «شاطئ الامان»، وكأنه محكومٌ بلعبة «السلّم والثعبان» ويقترب نموّه الاقتصادي من «صفر» ويكاد ديْنه العام أن «يأكل» كل مقوّمات «الصمود» الباقية والتي صارت في سباق مع… خط النهاية.
وبينما رأت الأوساط المطلعة نفسها أن لا مفرّ من القفز فوق القول المأثور «اللي جرّب المجرّب»، للإبقاء على «نافذة أمل» يُصارِع تجربةً مريرةً امتدّت من 2001 حتى 2007 وهي الأعوام التي انعقدت خلالها مؤتمرات باريس 1 و2 و3 والتي انتهتْ بـ«صفر نتائج» على طريق تحقيق الإصلاحات بفعل «الكمائن» والنكايات السياسية، لاحظتْ أن رئيس الحكومة سعد الحريري يتولى رسْم مسارٍ متشدّد بإزاء سقف وضوابط «مرحلة الإنقاذ» اختصره بعنوان «ينضبّوا السياسيين»، في ما بدا محاولةً لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم حيال «الفرصة الأخيرة» لتَفادي السقوط في الهاوية أو «تفخيخ» التفاهم «الكلامي» الذي حصل على حتمية تعطيل «صاعق» الانفجار المالي – الاقتصادي.
الراي