خريستو المر:
منذ زمن بعيد في لبنان، يحارب الكثيرُ من المسيحيّين ــــ والسياسيّون منهم خاصّة ــــ المسيحَ بلا هوادة. قبل الحرب الأهليّة كان للسياسيّين «المسيحيّين» الحصّة الكبرى في استغلال البلاد والعباد، تعاملوا مع الدولة كمزرعة طائفيّة، تشبّثوا بمفاصل السلطة والاقتصاد للاستقواء على الطوائف الأخرى. أمّا في الحرب الأهليّة، فتعاملوا بشراسة ما بعدها شراسة مع المسيح، عملوا ليل نهار على تشويه تعاليمه باستعمالهم المسيحيّة كأداة حرب وجريمة. انتهت الحرب الأهليّة، لكنّ الخطاب الطائفيّ والعنصريّ لم ينته، أتحفنا وزير «مسيحي» منذ أيّام بمحاولته قتل الفلسطينيّين وهم أحياء بالتضييق على القليل القليل الذي تسمح لهم به الدولة اللبنانيّة، وأتحفنا وزير آخر باجترار أفكار مفهومة بالحسّ الشعبي عبر العالم على أنّها عنصريّة: «فليتوزّع الفلسطينيّون على الدول العربيّة»، هذا عدا عن «جينات لبنانيّة» ابتكرتها عنصريّة سياسيّ آخر أخيرًا.
أيّ لغة تتكلّم مع هؤلاء وغيرهم؟ أو تتكلّم لغة حقوق إنسان؟ ماذا تقول؟ تقول لهم أنتم تخالفون مبادئ شرعة حقوق الإنسان؟ تتكلّم لغة الإيمان مع هؤلاء وغيرهم؟ ماذا تقول؟ تقول لهم إنّ المسيح ساوى بينه وبين المسحوقين وأنّكم إن رفضتم هؤلاء رفضتموه؟ ماذا تسألهم؟ إن كانوا يردّدون ببغائيًّا عبارة «المحبّة» المسيحيّة فقط ليرتاحوا أنّ دينهم جميل وربّما أيضًا «متفوّق»، بينما يمارسون عكس المحبّة دون أن يرفّ لهم جفن؟
هؤلاء وغيرهم لا يعرفون، ربّما، أنّهم يصلبون المسيح يوميّا عندما ينهبون، ويساهمون بخراب الاقتصاد بتمسّكهم الأعمى بالطائفيّة وبسياسات إجراميّة تدمّر البلاد وتفيد الزعماء، ويخلقون الفقر ثمّ يتاجرون بالفقراء. هؤلاء وغيرهم لا يعرفون، ربّما، أنّهم يصلبون المسيح عندما يضيّقون على الفلسطينيّين عوض أن يسهّلوا حياتهم بكرامة. من يعش بحسب الإنجيل يفهم أنّ الفلسطينيّين، كما كلّ مهمّش، هم وجه المسيح، وأنّهم وجه المسيح بامتياز لأنّهم مهمّشون بامتياز، فالمسيح وحّد نفسه بشكل خاصّ مع المهمّشين. ولكن الطائفيّين والعنصريّين لا يفهمون هذا الكلام مع أنّه كلام المسيح بالذات، هم يفضّلون مسيحاً يبنونه على شاكلتهم، يفضّلون صليباً يستخدمونه لتحقيق المكاسب والتسلّط لا لإشاعة المحبّة. يفضّلون صنمًا للعبادة يصوّرونه على شاكلة مصالحهم، لا أن يحيوا على صورة المسيح. أيّ لغة تتكلّم مع هؤلاء؟ مع هؤلاء لا ينفع الكلام، هؤلاء يعلمون ماذا يفعلون، يعلمون أنّهم يستغلّون كلّ شيء وحتّى الله لخدمة مصالحهم، ومستعدون لعقلنة كلّ عنصريّة وفساد وجريمة. نتكلّم فقط لنشهد ولكي يتنبّه من انجرّ وراء هؤلاء دون أن يدرك إلى أين ينحدرون به.
“إنّ الحرّية المسيحيّة تعني الانتصار على كلّ ما يعمل على تغريب الإنسان عن الآخر”
يدعونا يسوعُ المسيح إلى تجاوز الانغلاق، إلى تجاوز النظر إلى الآخر المختلف على أنّه «غريب»، إذ لا يحتكر أحد ولا جماعة «صورة الله» ولا الصفة الإنسانيّة، ولا أبوّة الله للبشر. إنّ دعوة المسيح هي لتجاوز كلّ نظرة إلى آخر على أنّه «غريب»، هي دعوة لمحبّة «الغريب» عن القبيلة العائليّة أو الطائفيّة أو الوطنيّة أو القوميّة. إنّ وصيّة محبّة «الغريب» موجودة في وصيّة محبّة «القريب»، فيسوع كان واضحًا بفكرة أنّ الإنسان «القريب» هو نفسه الإنسان «الغريب» الذي يصبح قريبًا إن أحببناه (مثل السامري الشفوق). كلّ إقصاء «للغرباء» عن المحبّة والعدل هو في الآن عينه إقصاء للذات عن الله، وعودة إلى عبادة الأصنام: صنم الدين، أو الطائفة، أو العائلة، أو الوطن، أو القوم، أو الحزب، أو ما شئتم. ومن هذه الزاوية، يمكن فهم الربط الذي أقامه الرسول يوحنّا بين محبّة البشر وبين محبّة الله بقوله «إنّ الذي لا يُحِبّ أخاه الذي يراه، لا يَقْدِر أن يُحِبّ الله الذي لا يراه».
حتى في العهد القديم، كانت الدعوة لمحبّة «الغريب» عن القبيلة حاضرة بشكل متواصل: فـ«شريعة واحدة تكون للمواطن والغريب النازل فيما بينكم» (خروج 49:12) «والغريب فلا تظلمه ولا تضايقه، فإنكم كنتم غرباء في أرض مصر» (خروج 25:22). «وليكن عندكم الغريب المقيمُ فيما بينكم كأحد مواطنيكم، أحبّوه مثلما تحبّون أنفسكم، لأنكم كنتم غرباء عن أرض مصر» (لاويين 33:19- 34). وأمّا يسوع فقد وحّد نفسه بالغرباء وجعل من إيوائهم شرطًا لدخول الملكوت «كنت غريبًا فآويتموني» وجعل من الامتناع عن إيوائهم مانعًا من دخول الملكوت «كنتُ غريبًا فلم تؤووني»، ويوضح لمن يتساءلون أنّهم لم يروا يسوع في حياتهم ليساعدوه «بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلاءِ الصغار [المهمّشين]، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا». الفلسطينيّون ليسوا غرباء هم إخوة في الإنسانيّة أساسًا، وشعبٌ مهجّرٌ مشرّدٌ يختنق من قلّة الحيلة، ضيّقت عليه الجريمة الأصليّة التي ما تزال ترميه خارج أرضه، وجريمة القوانين المجحفة التي تنال منه كلّ يوم في بلاد غارقة حتّى أذنيها في النهب الطائفيّ والعنصريّة.
إنّ الدعوة لمحبّة الآخرين في الإيمان المسيحيّ هي دعوةٌ لعبادة الله، هي دعوةٌ لتجاوز كلّ صنم يفصل بين الـ«نحن» والـ«هُم»، بين «الأقرباء» و«الغرباء». دون محبّة الغريب نحن لسنا أحرارًا وإنّما عبيد أصنامنا، ولذلك فالحرّية المسيحيّة تقتضي إنصاف الفلسطينيّين، والعمل بلا كلل على إنهاء النظام الطائفيّ الذي يفقّر اللبنانيّين ويسمّم أفكارهم وأفعالهم وحياتهم الإيمانيّة، عوض التعلّل بطائفيّة «الآخرين» للتمسّك بطائفيّة الذات الجماعيّة المنتفخة بالوهم. إنّ الحرّية المسيحيّة تعني الانتصار على كلّ ما يعمل على تغريب الإنسان عن الآخر، أي عن نفسه. الحرّية المسيحيّة هي ثورة الإنسان الذي يريد تأسيس عالم مشاركة لا عالم قبائل، عالم حياة للجميع لا عالم انتحار جماعيّ.
* أستاذ جامعي