عبد الوهاب بدرخان:
إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية واختيار دونالد ترامب عدم الردّ على إيران أو تأجيله، وقبل ذلك ضرب إيران أربع سفن ثم ناقلتي نفط واصطفاف روسيا والصين وبعض أوروبا لتجهيل الجهة الفاعلة المعروفة، كذلك مواصلة حوثيي اليمن تنفيذ استراتيجية إيرانية بضرب أهداف في السعودية، يُضاف إليها محاولة الحكومة العراقية ضبط ميليشيات “الحشد الشعبي” التي قصفت قاعدة التاجي حيث يوجد أميركيون ومنشآت تابعة للقطاع النفطي تحديداً شركة “إكسون موبيل” الأميركية في البصرة… كل هذه الوقائع باتت جزءاً من حرب غير تقليدية قائمة فعلاً، تُخاض تحت شعار “لا أحد يريد الحرب”، وتُستخدَم في تداول الرهانات وتقويمها وتصويبها أو حتى المضي بها على أخطائها. فالأطراف استنفرت جميعاً، متراصدة ومتراقبة، وتراجع حساباتها يومياً.
يبقى الرهان الإيراني هو الأصعب، وتشير المخاطرات التي يقدم عليها إلى الأهداف الكبيرة التي تسعى طهران إليها، لكنها لم تعد متيقّنة بإمكان تحقيقها. فهي تعرف أن المساومة بميزان القوى العسكرية مع الولايات المتحدة قد يعطيها بعض النتائج التي ترضي غرورها، كما تحرج العدو الأميركي وتربكه، غير أنها لا تستطيع الاعتماد عليها طويلاً. لم تكن تلك مجرد طائرة مسيّرة بل إحدى مفاخر التكنولوجيا الحربية الأميركية، وكان يُفترَض ألّا تلتقطها الرادارات، وبالتالي قد يكون الأميركيون اكتشفوا أن ثمة تكنولوجيا لم يكونوا يعرفون أن إيران تملكها أو حصلت عليها حديثاً. لم يخطئ الذين اعتقدوا أن إسقاط تلك الطائرة سيشعل أولى المواجهات المباشرة في الخليج، فنظرياً ووفقاً للسوابق المعروفة كان لا بدّ أن يردّ الجانب الأميركي، بل كان لديه ردّ جاهز إلا أن ترامب أوقفه.
لعل هذا ما يمثّل الطابع غير التقليدي لهذه الحرب. أي أن “الردع”، كهدف أميركي، قد يعني أيضاً عدم الرضوخ للاستدراج الإيراني، وتعويد العدو على توقّع غير المتوقّع من أميركا. صحيح أن عدم الردّ قد يُفهم ضعفاً وتردّداً أو يُصوّره الإيرانيون خوفاً وعجزاً ما يشجعهم على رفع درجة الاستفزاز، لكنه في الوقت نفسه رسالة يُراد بها تأكيد أن ترامب ليس في صدد حرب كالتي يتخيّلها العالم أو استعدّت لها طهران، بل إن حربه الحقيقية أنجزت وبدأت عملياً منذ فرض العقوبات المشدّدة. هذا ليس تنظيراً لـ “فكر” الرئيس الأميركي ونهجه، بل قراءة تهدف إلى فهم الوقائع، ولعل ترامب يعتقد أن المرشد علي خامنئي فهمه جيداً إلا أن لديه كما لدى نظامه معوّقات عقائدية تمنعه من بلوغ النقطة التي تقنعه بمجاراة اللعبة الترامبية، والأرجح أنه لن يقتنع أبداً. فعلى سبيل المثال برّر ترامب وقف قصف أهداف إيرانية بأنه اتخذ قراره بعدما عرف من الجنرالات أن الردّ سيُوقع عشرات القتلى، أي أنه لا يتناسب مع تدمير طائرة غير مأهولة وإن كانت كلفتها تناهز 140 مليون دولار. لم ينطلق ترامب من اعتبارات إنسانية، بل رأى في القصف توجّهاً مخالفاً لخطّته: تفعيل العقوبات. لذا فضّل الردّ بمزيد من العقوبات التي أفصح شخصياً بأنها تستهدف خامنئي.
لا شك في أن المرشد يتعامل مع هذه العقوبات بالاستهزاء، على جاري عادته، غير أن تأثيرها صار واقعاً مؤلماً للإيرانيين عموماً، لا يستطيع انكاره. وإذ يحاول مقاومته بالمجازفات فإنه يصطدم بأن عدوّه عازمٌ على التحمّل لإفشال نزعته القتالية، بدليل أنه امتصّ الضربات المهددة لسلامة الملاحة، كما تفاهم مع حلفائه الخليجيين على أن الجدوى ليست متوقّعة من الاستعدادات العسكرية على أهميّتها، بل من إعطاء الوقت الكافي لظهور نتائج العقوبات. إذاً فمنطق الحرب موجود لكن مفهومها ومقاربتها ووسائلها مختلفة بين الطرفين، وتبدو إيران مسبوقة بأشواط مهما جهدت لإثبات أن ثمة معادلة متكافئة عسكرياً أو مهما توفّرت لديها الإمكانات لـ “إشعال المنطقة”، فهي لا تنسى أن لديها هدفاً عاجلاً (التخلّص من العقوبات) لا تستطيع تحقيقه عسكرياً، ولا تنسى أن لديها خياراً صعباً (التفاوض) تريد اعتماده بشروطها وتعتقد أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لفرض تلك الشروط.
علامَ يراهن الرئيس الأميركي والمرشد الايراني؟ كلاهما يرمي إلى استعادة الماضي وفقاً لتصوّره، إذ كانت إيران الشاه في الفلك الأميركي وهذا ما جعلها “شرطي الخليج” لكن بشروط واشنطن، أما إيران الملالي فتحاول انتزاع هذه الوظيفة الاقليمية بلا إشراف أميركي وبلا منازع، بل بطرد الأميركيين وحملهم على الانسحاب من المنطقة، حتى أنها لا تعترف بأن ظروف الخليج تبدّلت كليّاً عما كانت عليه قبل أربعين عاماً. ومع أن طهران سخّرت مواردها لتأمين القدرة العسكرية على اكتساب تلك الوظيفة وعسكرت مجتمعات الشيعة لمساندتها، إلا أنها لم تتخيّل أن الولايات المتحدة ستتمكّن من حشرها ووضع مشروعها تحت رحمة العقوبات.
يتصوّر ترامب أن إيران ستأتي بشكل أو بآخر إلى التفاوض، وهو ذكّرها أخيراً بأن العقوبات قد تستمرّ لسنوات، وهذا أخطر ما فيها، فهي منظومة بيروقراطية ثقيلة يصعب تفكيكها سريعاً. إذا صحّ توقّعه فإنه لديه مطالبه من النظام الإيراني، وأولها اتفاق نووي جديد يقرّ نهائياً عدم سعي إيران إلى “القنبلة”، وهذا ممكنٌ نظرياً بتنقيح اتفاق 2015، لكن مقابل ماذا؟ على افتراض أنه حصل فإن ترامب يريده بداية نهاية للعداء بين الدولتين، وبالتالي بين إيران وإسرائيل، ومن ثمَّ بينها وبين دول المنطقة، أيضاً مقابل ماذا؟ وتتطلع واشنطن طبعاً إلى المكاسب التي ستجنيها سواء استراتيجياً (في المواجهة مع الصين وروسيا)، أو اقتصادياً (استثمارات وصفقات) فقد كانت أهم المآخذ على الاتفاق النووي أنه فتح السوق الإيرانية أمام الأوروبيين وغيرهم وأبقاها مقفلة أمام الأميركيين.
هنا أيضاً سيسأل الإيرانيون عن المقابل، لأن أهدافهم الرئيسية لن تتغيّر، لذا فإن رهانهم على ما يمكن أن يحصلوا عليه من التفاوض وليس على مجرد رفع العقوبات. فإنهاء العداء يعني تعديل العقيدة السياسية – الدينية للنظام، وله ثمن كبير لا بدّ أن يحدّده ترامب من بداية الطريق وإلا فإن التفاوض سيتعسّر. بطبيعة الحال لن يكون الإيرانيون مفاوضين سهلين ولن يقدّموا أي تنازل مجاني، وبمعزل عن الصعوبات فإنهم متى ضمنوا الثمن الأكبر لن تكون لديهم مشكلة في التخلّي عن “قنبلة” لم يحصلوا عليها، أو حتى في إنهاء العداء مع إسرائيل وتسهيل “صفقة القرن” اللذين ربما يقدّمونهما كطُعم لإغراء الأميركيين، أو كذلك في منح مكاسب اقتصادية لأميركا إذا أمّنت لهم مكاسب تكنولوجية طمحوا إليها دائماً… لكنهم في كل الأحوال لن يتساهلوا في شأن ما يسمّونه “استثماراً” في محيطهم العربي ولن يتخلّوا عن “نفوذ” يعتبرون أنهم حصلوا عليه وما على أميركا سوى الاعتراف به وتثبيته لتحصل في المقابل على ما تريده.
هذه مجرّد رهانات لكنها تلتقي مع الواقع في جوانب كثيرة وتعكس بعضاً مما جرى تداوله في اتصالات أميركية – إيرانية، ولم تثمر لأن طهران لم تكن تحت الضغط ولم توافق على شروط التفاوض. ويصحّ التساؤل طبعاً عن رهانات العرب، تحديداً أهل الخليج، فهم يتحمّلون المخاطر حالياً آملين بأن تسهم المواجهة الأميركية – الإيرانية في تخلّي إيران عن عدوانيّتها لطيّ صفحة التوتّر الإقليمي. ولا جديد في ذلك، فكل الاتصالات لفتح حوار خليجي – إيراني ورسائل مجلس التعاون إلى إيران، لم تطلب منها سوى الحدّ الأدنى المفترض لإقامة علاقات طبيعية وسويّة (التزام مبادئ حسن الجوار، احترام سيادة الدول، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية، عدم استخدام القوة والتهديد بها)، لكن طهران لم تردّ. لذلك جاء بيان القمة الخليجية الأخيرة في مكة المكرّمة أكثر توضيحاً للرهانات، إذ دعا إيران إلى “إيقاف دعم وتمويل وتسليح الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، والامتناع عن تغذية النزاعات الطائفية والمذهبية”، لكنه طالب المجتمع الدولي بخطوات فاعلة وجدية لمنع حصول إيران على قدرات نووية، ووضع قيود أكثر صرامة على برنامجها للصواريخ الباليستية. بديهي أن هذه الرهانات لا تنطوي على قبول بنفوذ إيران ولا تضمر تهديداً لها.