نظمت جامعة الروح القدس – الكسليك، بمناسبة اليوبيل الذهبي لتأسيس معهد الليتورجيا، المؤتمر الدولي حول “التراث السرياني الشعري – الموسيقي “رِيشَي قُلِا” – “بِيتْ غَز برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي وحضور. كما حضر بطريرك السريان الكاثوليك مار اغناطيوس الثالث يونان، ورئيس عام الرهبانية اللبنانية المارونية الأب العام نعمة الله الهاشم، والآباء المدبرون في الرهبانية ورئيس الجامعة الأب البروفسور جورج حبيقة، وحشد من الأساقفة والرؤساء العامين والآباء وأعضاء مجلس الجامعة وفاعليات دينية وتربوية واجتماعية.
صقر
بداية، كانت كلمة لمدير معهد الليتورجيا في الجامعة الأب زياد صقر شدد فيها على مكانة ودعوة معهد الليتورجيا الفاعل في الكنيسة المارونية وبالتحديد في جامعتنا، لافتا إلى “أنه يجد مكانه الطبيعي في حرم الجامعة حيث يحتل فيها مكانة القلب بفضل دعوته الإصلاحية الحضارية ورسالته الثقافية وعمله الدؤوب في سبيل الارتقاء الروحي والعلمي على السواء. نعم، تعاودنا سنة 1969 وقد وطدت انطلاقة تاريخ زاخر بالمعطيات في ذاكرة جامعة الروح القدس للرهبانية اللبنانية المارونية. يومذاك افتتح معهد الليتورجيا ودشن تجاوبا مع مقترحات المجمع الفاتيكاني الثاني وتوصياته. معهد ترك لنا مجدا كبيرا صنع آباء من رهبانيتنا الذين أرسوا كيانه وأعلوا شأنه بمثابرتهم واندفاعهم ونشاطهم، فأصبح الحلم واقعا ملموسا ومعيوشا، بفضل ما أصلحوا وجددوا وابتكروا في ليتورجيتنا المارونية. ديمومة المعهد الذي نحن في صدد التحدث عنه، ستبقى فعلا بمثابة الأم الرؤوم الساهرة على إبراز الهوية المارونية بأبهى تجلياتها أدبا وتراثا روحيا غنيا. نعم، كان المعهد وما يزال وسيبقى صوت معلن وصوت مبشر وصوت مناد.. لذا وانطلاقا من هويته اللاهوتية والليتورجية ووفق توجيهات المجمع الفاتيكاني الثاني والارشادات الرسولية، يجد معهد الليتورجيا نفسه مدعوا دائما، إلى عملية تجدد مستمرة تأخذ في آن معا بالتقليد وموروث الآباء والأجداد وبمعطيات الزمن الحاضر”.
طنوس
ثم ألقى عميد كلية العلوم الدينية والمشرقية في الجامعة الأب يوسف طنوس كلمة أكد فيها أن “جردة حساب سريعة لإنجازات معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس في الكسليك، بمناسبة اليوبيل الذهبي لتأسيسه، تظهر ريادته والإصلاح الليتورجي الذي قام به والذي طبع من خلاله ليس فقط الكنيسة الأنطاكية السريانية المارونية، بل كل الكنائس الشرقية. خمسون سنة من العطاء ولا يزال معهد الليتورجيا يُخرج من ذخائره القديم والجديد، متشبعا من دينامية مؤسسه ومن دعم جامعة الروح القدس وانتظارات الرهبانية اللبنانية المارونية، ومن تلقف الكنيسة المارونية لإصدارات المعهد، ومن استزادة كل الكنائس الشرقية من الثقافة الليتورجية التي عمل المعهد على نشرها من خلال المحاضرات والمؤتمرات السنوية التي كان ينظمها ولا يزال. خمسون سنة ولا يزال معهد الليتورجيا مع معهد العلوم الموسيقية وكلية الموسيقى وبالتعاون الوثيق مع كوكبة من رهبان الجامعة كل حسب اختصاصه، يعملون على نهضة ليتورجية-موسيقية ورعوية تهدف إلى إبراز التراث السرياني لاهوتيا وروحيا وليتورجيا وموسيقيا في كل الطقوس الرعوية والرهبانية، وإلى السماح للمؤمنين بالصلاة وبالمشاركة في الطقوس الليتورجية. خمسون سنة ولا يزال معهد الليتورجيا، وهو الوحيد من نوعه في هذا الشرق، يحتضن ويدرُس الليتورجيات المارونية والسريانية والكلدانية والبيزنطية والملكية والأرمنية مع انفتاح مستمر على التقليد الغربي”.
حبيقة
بعد ذلك، كانت كلمة رئيس جامعة الروح القدس – الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة، شكر فيها “صاحب الغبطة والنيافة، لأنكم تكرمتم ووضعتم اليوبيل الذهبي لتأسيس معهد الليتورجيا وتكريم مؤسسه قدس الأباتي يوحنا تابت، تحت رعايتكم وبحضوركم الشخصي لما لهذين الالتفاتتين من مدلولات ومضامين. كيف لنا أن ننسى يا صاحب الغبطة ما قلتموه في مناسبة سابقة عن ريادية معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس الكسليك؟ أوجز كلمتكم البليغة بالآتي: بدون مساهمات معهد الليتورجيا المثرية والمتنوعة لكنا في عوز وفاقة روحيتين. فمعهد الليتورجيا هو الربيع الروحي في كنيستنا المارونية…”.
ثم تابع بالقول: “جميعنا يعرف جيدا أن كلمة ليتورجيا الوافدة إلينا من لغة الإغريق، Leitos إي الشعب، وErgon أي عمل أو خدمة الشعب، تغطي بمعانيها الواسعة جميع طقوسيات يومياتنا، حتى تصل إلى تمام مضامينها في خدمة الجماعة المصلية لاحتفالية اللقاء مع الله واستضافته في قلوبها المتوسلة. ليس ما يوازي العمل الليتورجي مهابة ومسؤولية، ابتداء بالكلمة والموسيقى، مرورا بالرموز والحركة وانتهاء بالخشوع والارتقاء. كل ما نتلقنه في اللاهوت ونتذهنه باهتمام وجوع ومشقة وصبر، نعيشه بفرح ودهشة وانخطاف في الليتورجيا”.
أضاف: “إننا لا نزال نتذكر باعتزاز كيف استقبلت جامعة الروح القدس الكسليك كوكبة من رهبانها المجلين، عائدين من روما وباريس، في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، يسكنهم اندفاع مجنون إلى تجذير كل شيء في بداياتنا التأسيسية وجعله في آن واحد متآلفا مع تطلعاتنا الحاضرة. وكان على رأس جامعتنا آنذاك الأب العلامة إسطفان صقر، الذي كان يجمع العبقرية الفلسفية إلى الانسحاق الرهباني، وشموخ التفكير إلى وضاعة العيش. هو من استقبل هذه الكوكبة الواعدة وأحاطها بعناية فائقة وحضها على ركوب مغامرة التواصل مع المناهل الأساسية والانطلاق إلى آفاق التحديث والتأوين. وهكذا نرى قدس الأباتي يوحنا تابت يؤسس معهد الليتورجيا سنة 1969، والأب لويس الحاج يؤسس معهد العلوم الموسيقية سنة 1970 وقدس الأباتي بولس نعمان يؤسس معهد التاريخ سنة 1971. فما كان من الأباتي تابت إلا أن صمم وخطط ووضع خريطة طريق لورشة ليتورجية عارمة وهادفة. هو المتبحر في جميع مفاصل طقسنا الماروني وطقوس الكنائس السريانية الشقيقة، والمتعطش إلى بعث تراثاتنا الأنطاكية السريانية ونفض غبار التاريخ ومصائبه عن طقوسنا العريقة النائمة وسد ثغرات وفجوات في زمننا الطقسي من أجل عمل ليتورجي كامل ومتوازن، يرافق المسيح المخلص منذ البشارة إلى العنصرة وولادة الكنيسة وعمل الروح. فكان زمن الميلاد بشحيمته الكاملة، بالإضافة إلى زمن جديد، لم تعرفه كنيستنا في السابق، أوجده الأباتي تابت بشكل كامل، ألا وهو زمن الدنح. يضيق بنا الوقت الآن لتعداد أبحاثه بعد أطروحة الدكتوراه، من نشر أقدم شحيمة مارونية، مع هوامش تفسيرية وتحليلية، إلى إصدار المجموعة الضخمة لـ “بيت غازو”، “بيت الكنز” الليتورجي الماروني، الذي وصل حتى الآن إلى ما يقارب الثلاثة والأربعين مجلدا في اللسان العربي. إنها لإنتاجية مذهلة، لا يقوم بها إلا من هو متيم بعالم الروح وعاشق للزمن الآتي”.
وأردف: “إن الملفت للنظر في خلية النحل هذه إنما هو العمل الجماعي الجامعي. كثيرا ما ننتقد كموارنة أننا لا نتقن فن العمل معا، بينما نبدع في الإنجازات الفردية. قد يكون هذا القول صحيحا في جزء منه، غير أن النهضة الليتورجية التي شهدتها جامعة الروح القدس الكسليك تقدم إثباتا بليغا معاكسا. لم تكن هذه الحركة لتعطي الثمار التي نعرفها لولا شخصان استثنائيان، بالإضافة إلى محورية الأباتي تابت، الأب لويس الحاج والأب روفايل مطر”.
وتوجه إلى الأباتي يوحنا تابت بالقول: “كن واثقا أننا نتكرم جميعا في يوم تكريمك. ويعز علينا أن يعلق عن بعد على صدرك رئيس كنيستنا، صاحب الغبطة والنيافة، وسام مار مارون الرفيع، وأنت طريح الفراش في المستشفى، تشرك آلامك بآلام المسيح الفادي. كم كنا وددنا أن نستقبلك في قاعة يوحنا بولس الثاني المتجلببة الحلة الجديدة القشيبة، بفضل سخاء وكرم الأستاذ شارل الحاج ابن أخ الأب لويس الحاج، والتي يدشنها هذا المساء غبطة أبينا البطريرك في أول نشاط أكاديمي بعد إنجاز الأعمال فيها. قدس الأباتي تابت، أنت مرجع متألق في التحصيل العلمي والبحث الأكاديمي العنيد، والمثابرة والكد والجهاد وتحدي المصاعب وجعلها مدرجا لانطلاقات جديدة، والسعي الدؤوب إلى التجديد الليتورجي المستدام. جميعنا يتمنى لك الشفاء العاجل بنعم الرب المنتصر على معطوبية طبيعتنا البشرية، والعودة الميمونة إلى ليتورجيتك المفضلة”.
الأباتي تابت
ثم ألقى رئيس قسم الفن المقدس الأب عبدو بدوي كلمة الأباتي يوحنا تابت، مشيرا إلى أنه “حين نقول ألمصادر الليتورجية المارونية، نعني، أساسا، هذه الكمية الكبيرة والمتنوعة من المخطوطات الموزعة في مكتبات الشرق والغرب، والتي لم يتم إحصاؤها، بشكل نهائي، حتى اليوم، إضافة إلى أنها تتناول مختلف الموضوعات الطقسية، كالأسرار والقداس والفرض والرتب والزياحات والعبادات، من حيث معطياتها الليتورجية واللاهوتية والكتابية والإيقونوغرافية والآبائية والموسيقية والهندسية والأنتروبولوجية والسوسيولوجية”.
ثم انتقل للحديث في القسم الأول من كلمته عن أهمية التراث الليتورجي المخطوط، معرفا بـ “ألبيت غازو التي تعني “بيت الأسرار” أي “الكنز”، كناية عن مخطوط يتضمن مجموعة كبيرة من الألحان، سابقة لأي هيكلية أو بنية داخلية في ساعات الفرض الإلهي. أهمية البيت غازو أنه ينبوع، أو مصدر، بكل معنى الكلمة؛ منه استقت مختلف صلوات الفرض نصوصها وألحانها وأبياتها. وهو يركز هذه الأخيرة، ويعطيها طابع الأصالة والقدم والفرادة الأساسية. أما أهميتها فتكمن في أمرين: أولا: إنها سابقة -تاريخيا- لكل تدخل روماني في النصوص الليتورجية المارونية، وسابقة لحفلة “الحريق” الروماني، ثانيا: إنها مخطوطة باللغة السريانية؛ وهذا يعني أنها تمثل التراث الماروني الأصيل الذي لم تعبث به يد “الإصلاح المزعوم”، أو الاصطفاف مع اللاهوت اللاتيني والطقس اللاتيني”.
وفي القسم الثاني، قدم الأباتي تابت لمحة عن “ثلاثة بيت غازات وهي: من مكتبة المتحف البريطاني-لندن 14701 Add. (1263 a.D.)؛ من مكتبة المتحف البريطاني-لندن (القرن الثاني عشر – الثالث عشر) 14703 Add.؛ من المكتبة الفاتيكانية-روما (القرن الثالث عشر) 3240 Vat. Syr..، مستنتجا أن العودة إلى المصادر الليتورجية قاعدة ذهبية لاكتشاف هويتنا الكنسية والليتورجية المارونية؛ وأن طريقنا الملوكية إلى ذاتنا الليتورجية واللاهوتية المارونية تمر، حتما، في اكتشاف ومطالعة البيت غازات؛ وتبقى أسئلة عديدة حول موضوع البيت غازات، ومنها: العبور من هذه البيت غازات إلى الفرض التقليدي: كيف تم هذا العبور، متى، ومن قام به، ولا بد من الإقرار، أيضا، بأن هذه الكنوز الليتورجية قد أضاءت على التراث الكنسي الماروني وأغنته بمعطيات أصيلة، وساهمت في تحرير الموارنة من “عقدة الذنب” التي ألصقت بهم ظلما؛ وبمقدار ما نغوص في هذه المصادر، بمقدار ذلك نكشف ملامح شخصيتنا الكنسية والليتورجية، ومكانتنا ضمن مجموعة الطقوس السريانية والشرقية والأنطاكية”.
الهاشم
وبعد باقة من التراتيل السريانية التي قدمتها جوقة قاديشا بقيادة الأب يوسف طنوس، ألقى رئيس عام الرهبانية اللبنانية المارونية قدس الأب العام نعمة الله الهاشم كلمة قال فيها: “إنه الروح القدس، هو الروح القدس الذي أوحى بتأسيس دير مار مارون إثر المجمع الخلقيدوني، فزُرِعَت بذرة شجرة مميزة في حديقة الكنيسة والملكوت. شجرة نمت بعناية الله في قلوب وضمائر وأذهان مئات من الرهبان كرسوا حياتهم بكليتها لله ولإنماء ملكوته، فامتدت جذورُها لتستقي الماوية من كلمة الله في الكتاب المقدس وفي التقليد الكنسي، مرتكزة على التقليد الآبائي الانطاكي السرياني، مع إخلاص دائم للعلاقة مع كنيسة روما، وتفاعل منقطع النظير مع التقاليد الكنسية المحيطة بها، الصديقة والأقل صداقة”.
أضاف: “هو الروح القدس الذي جعل هذه الشجرة تزهر وتثمر، ونضجت الثمار بعد مئتي وخمسين سنة ونيف على تأسيس الدير، فكان تأسيس الكنيسة المارونية، عبر انتخاب رئيس الدير بطريركا، أولى هذه الثمار وأهمها، وكان التقليد الليتورجي المميز، الرهباني النكهة، أشهاها. وكر الزمان، والشجرة تنمو وتزهر وتثمر، أمينة لجذورها المشرقية ولعلاقتها بكنيسة روما، مرتكزة على روحانيتها الرهبانية. وهو الروح القدس ذاته الذي أفرخ غصنا مميزا في هذه الشجرة، غصن تجديد الحياة الرهبانية، فكان التجديد الكنسي مع المجمع اللبناني والتجديد الطقسي مع الصلوات التي ترجمها وألفها الرهبان وعلى رأسهم قراعلي”.
وتابع: “إنه الروح القدس ذاته الذي أوحى للسلطة الرهبانية بعد مئتي وخمسين سنة ونيف على التجديد بتأسيس دير لناشئتها أبى إلا أن يكون على اسمه: دير الروح القدس الذي اصبح فيما بعد دير وجامعة الروح القدس. إنه الروح القدس المعلم الذي اختار له باقة من الرهبان اللبنانيين، جمع القسم الأكبر منهم في الجامعة بعد أن أمن لهم، من خلال الرهبانية، التنشئة الروحية والعلمية اللازمة، فكان منهم العلماء واللاهوتيون والليتورجيون والموسيقيون والشعراء واللغويون والرسامون والمدققون. إنه الروح القدس المذكر الذي ذكرهم بجذورهم وكنوزهم (بيت غزو) الإنطاكية السريانية المشرقية في العقيدة والليتورجية والفن والموسيقى، وبتقاليد رهبان دير مار مارون ورهبان جبال لبنان ومؤسسي رهبانيتهم أمثال قراعلي وفرحات، كما ذكرهم بما تعلموه من كنيسة الغرب لتنظيم وإغناء تراثهم الخاص، إنه الروح القدس الملهم الذي ألهمهم العمل سويا للمساهمة كل حسب موهبته لإتمام مشروع التجديد الطقسي لصلوات الفرض الماروني، وكانت النتيجة الإنجاز الأبرز لتجاوب الرهبانية مع إلهامات الروح، إذا استثنينا من السباق مشروع القداسة الذي حققه الروح في كثير من أبنائها أمثال القديسين شربل ونعمة الله ورفقا واسطفان وغيرهم”.
وشدد على “إنه الروح القدس المؤيد الذي أيدهم في تحقيق هذا الإنجاز يوم كان لبنان مشتعلا بنار الحرب، فانكبوا، مع أبناء الرهبانية جميعا، كل بما حباه الله من مواهب، على صياغة الجمال لمخاطبة الله، يوم كانت قوى الشر تعبث بلبنان تهديما وخرابا وبشاعة. فأنجزوا سنة بعد سنة جزءا بعد آخر من كتب الدورة الطقسية المارونية، وجاءت النتيجة ملحمة شعرية ونثرية غير مسبوقة في اللغة العربية، وسمفونية موسيقية رائعة، ولوحة فنية تضاهي أشهر اللوحات”.
وقال: “إنه الروح القدس المعزي الذي كافأ هذا العمل باحتضانه من قبل الرهبانية وبتبني السلطة الكنسية له فيما بعد، وبحضوركم يا صاحب الغبطة اليوم، مع صاحب الغبطة وأصحاب السيادة وهذا الجمع الكريم، تلبية لدعوة معهد الليتورجيا في كلية العلوم الدينية والمشرقية في جامعة الروح القدس، لتكريم ضابط إيقاع هذا العمل، قدس الأباتي يوحنا تابت، الذي يعز علينا عدم وجوده معنا لأسباب صحية. من خلاله يصل التكريم إلى كل من شاركه هذه الورشة، ملبين إلهامات الروح، كل حسب موهبته وإمكانياته، من المرحومين الجبارين روفايل مطر ولويس الحاج وصولا إلى الإخوة الدارسين الذين ساهموا في التدقيق والطباعة. إنه عمل جماعي بامتياز له قادته وجنوده وخلفياته، من الذين ذكرهم أخوتي الذين سبقوني على الكلام أم لم يذكروهم، فهل فينا من يجهل الدور المباشر وغير المباشر لأمثال الآباء يوسف الخوري ويوسف الأشقر ومارون كرم وغيرهم في هذا العمل؟ إنه عمل رهباني جماعي بامتياز وفق إلهامات الروح”.
وختم: “إلى الروح القدس البارقليط أي المحامي نلجأ في النهاية، ونوجه النداء لكم يا صاحب الغبطة، للحفاظ على هذه السمفونية الرائعة وهذه التحفة الفنية. لا مشكلة لدينا بأن تنقل أو تطبع أو تنشر أو يستوحى منها، إلى ما هنالك من استعمالات، شرط عدم المساس باللوحة الأصلية، وكتب الفرض هي هذه اللوحة. لسنا نطالب كرهبانية بمستحقات وموجبات حقوق الملكية الفكرية. إنما لكل لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية لحظة الوحي الخاصة بها، التي تشكل خاتم الإلهام وعمل الروح فيها. بعد صدورها تصبح تراثا فنيا عاما، ولا يمكن حتى للفنان نفسه التدخل فيها من جديد، فكم بالأحرى بغيره. نحن لا نؤمن بنظرية الناسخ والمنسوخ، بل “بما كتب قد كتب”، لا يمكن نسخ شعر روفايل مطر أو موسيقى لويس الحاج ويوسف الخوري أو غيرهم ممن شارك في الإصغاء لإلهامات الروح، فكل مس به هو مس بالبعد الماورائي للعمل وبإلهامات الروح. لا يمكن على سبيل المثال نسخ “والبيعة بالنجوى تلقى الحيا مذبوحا حيا” لتصبح “والبيعة بالنجوى تلقى الإبن مذبوحا حيا” من دون المس بالحس اللاهوتي والفني والشعري والأدبي”.
الراعي
وختاما، ألقى البطريرك الراعي كلمة قال فيها: “يطيب لي في المناسبة أن أهنىء الرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة وجامعة الروح القدس على إنشاء معهد الليتورجيا الذي خلق ذهنية جديدة في كنيستنا المارونية، وبزغ معه ربيع الإصلاح الطقسي فيها، غداة انعقاد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. فشكل هذا المعهد مدرسة للتعمق في مختلف الطقوس الشرقية ومقارنتها وإبراز أصالتها؛ كما شكل مركزا للأبحاث العلمية، وشرع أبوابه للكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين من مختلف الكنائس والأبرشيات والرهبانيات. فتخرجوا منه بشهادات عليا. لقد اقترن إسم هذا المعهد بإسم مؤسسه، قدس الأباتي يوحنا تابت، الذي كرس نفسه فيه، بفضائله وعلمه واختصاصه، لخدمة الكنيسة على مدى خمسين سنة توزعت ما بين مدير وعضو في المجلس وأستاذ. ولا أنسى أيام لقاءاتنا في روما في أواخر الستينات عندما كان يهيئ الدكتوراه في العلوم الليتورجية في المعهد الحبري الشرقي. فكنت أرى فيه الراهب الملتزم والجاد في البحث والتنقيب بكثير من العطش والحماس. ومن حينها كان له في قلبي تقدير كبير ومحبة. وفور عودته إلى لبنان أسس سنة 1969 معهد الليتورجيا”.
أضاف: “فكان نتاج هذا المعهد على مر السنين عظيما بالمنشورات التي أصدرها. وهي تتضمن فروض السنة الطقسية والمتعيدات والرتب الطقسية ومحاضرات ومؤتمرات وأبحاثا ليتورجية، ومصادر ونصوصا يفوق مجموعها المئة. إنه كنز كبير يغني روحانية الكنيسة المارونية، ويحدد هويتها، ويفتح آفاق رسالتها. بفضل هذا النتاج الواسع والأصيل تمكنت اللجنة البطريركية للشؤون الطقسية من الانطلاق في عملية الإصلاح الطقسي الذي شمل القداس، وخدمة الأسرار، وصلوات المرافقة (الجنازات)، وسواها مما هي منكبة على إصلاحه، وفي طليعتها صلوات الساعات، وكتاب الروبريكات. فلولا أعمال معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس، لما كان بالإمكان تحقيق الإصلاح الذي وحد الرباط بين الكنيسة الأم في لبنان وأبرشيات الانتشار والرسالات. وهكذا أصبحت جامعة الروح القدس قبلة الأنظار والإنتظارات، بفضل تطلعات السلطة العامة في الرهبانية الجليلة، وتخطيط الرؤساء الذين تعاقبوا على الجامعة، وإدارات كل من معهد الليتورجيا، وكلية العلوم الدينية والمشرقية، منظمة هذا المؤتمر”.
واعتبر أن “الليتورجيا ليست مجرد ممارسات طقسية، بل هي حاجة لحياة كل إنسان. فالمشاركة في أسرارها تغذي النفس وتحملها على الاتحاد بالله والوحدة مع الآخرين، وعلى التعبير بالمسلك والأفعال عما تعلمته بالإيمان. والليتورجيا وسيلة رفيعة لتربية كل إنسان، لأن فيها يكلم الله قلبه، والمسيح يعلن له إنجيله، والشعب يجيب بالأناشيد والصلوات. وهكذا تكون الليتورجيا الينبوع الأول والضروري الذي منه يكتسب الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيون الروح المسيحية الحقة، على المستوى العقائدي والأخلاقي والراعوي. هذه الروح ضرورية في الحياة العائلية والكنسية والاجتماعية والوطنية. هذا ما هدف إليه وحققه معهد الليتورجيا في جامعة الروح القدس – الكسليك، على مدى خمسين عاما، كان فيها قدس الأباتي يوحنا تابت المحرك الأساس والربان الحكيم في تعليمه واحتفاله وشهادة حياته وعمله الدؤوب في الليل والنهار، وفي مقالاته ومحاضراته وكتبه وإصداراته ومنشوراته. فقال فيه المرحوم الأباتي عمانوئيل خوري، رفيق دربه منذ البداية وحتى وفاته المبكرة والمؤلمة على قلوب الجميع: “هذا ما جعل كتبه ومقالاته وغيرها الأقرب إلى الحقيقة، والاحتفالات التي يرعاها أو يرئسها الأقرب إلى كمال الاحتفال، والكتب الطقسية التي أعدها ويعدها الأقرب إلى الأصول العلمية والطقسية والراعوية”.
وختم متوجها إلى الأباتي تابت: “شكرا لك من القلب بإسم كنيستنا المارونية، بل بإسم جميع كنائسنا المشرقية على هذا الإنجاز الكبير الذي كرست له حياتك، إيمانك وقلبك وعلمك ورؤيتك النبوية. أطال الله بعمرك مع المزيد من النعم، وبارك معهد الليتورجيا والقيمين عليه، وجعله زاهرا ومثمرا حسب رغبات قلبك الكبير. والشكر للرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة، ولجامعة الروح القدس – الكسليك، راجين من الله أن تظلا منارة قداسة وعلم، وقبلة الأنظار والانتظارات، لمجد الله وإعلاء شأن الكنيسة وإشعاعها الدائم من لبنان”.
الجلسات
ثم تابع المؤتمر أعماله، فعقدت جلسات على مدى يومين، شاركت فيها نخبة من اللاهوتيين والاختصاصيين من لبنان وخارجه.