من الخطأ الاعتقاد أن انفجار الخلاف داخل حكومة «إلى العمل»، بين الرئيس سعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل مسألة عابرة، وقابلة للمعالجة الظرفية.
هذه الزاوية تفتح باب البحث عن هذا الانطباع السلبي لعلاقة الرجلين، اللذين يفترض ان يكون لكل منهما دوره في إنتاج التسوية التي أنهت حقبة من التوتر السياسي، مع وصول مؤسس التيار الوطني العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، في 31 (ت1) 2016، وما تلاها، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
الثابت أن مدخل التأزم هو «النزوح السوري» بكل أبعاده وخلفياته، وصولاً إلى مسألة عودة هؤلاء إلى بلدهم سوريا، وعن أيّ طريق، وماذا يترتب عن عدم العودة.. وهذا لم يعد سراً، فالقضية أبعد من محاربة الفساد، أبو إعادة بناء الإدارة، أو انتظام عمل المؤسسات… الخ، وهي معزوفة، لم تعد على جدول التيار بالقوة التي ظهرت بعد العام 2005.. ولا حاجة للأخذ والردّ حول هذه النقطة..
بدا، جبران باسيل، كعنصر اعتراض على اللعبة، أو لاعب في ملعب آخر. اللعبة تتألف من الجمهور السلبي، أو الفاعل، وهم النازحون السوريون، كما تتألف من المفوضية العليا لرعاية النازحين، ومن دول مضيفة، أو دول مانحة.. وثمة مؤسسات وبنى إدارية وتنظيمية وإعلامية وتعليمية..
ولا بدَّ من العودة إلى أصل التعريفات، لفهم مسار الأزمة: النازحون هم سوريون، يحملون الجنسية السورية، هجّروا، أو هربوا من مناطق سكنهم الأصلية، وتحولوا إلى مجموعة من دول الجوار، تدعى الدول المضيفة، المحيطة بسوريا، مثل الأردن وتركيا ولبنان، فضلاً عن دول أوروبية حدّدت أعداد المسموح لهم منهم بالتواجد على أراضيها، بوصفهم قوى فنية، قد تشكّل قوى عمل مهنية، تحتاجها المجتمعات الغربية، الممعنة في الهرم، وتراجع الاهتمام بما يُمكن وصفه بمهن وضيعة.. وترعى شؤون هؤلاء باشراف من الأمم المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، ومجموعات دولية أخرى عربية وغير عربية..
طرحت مسألة العودة كبند خلافي لبناني، وإن كانت القوى السياسية، المنضوية داخل الحكومة، تجمع على عودة هؤلاء النازحين، الذين ثمة اختلاف حول عددهم، أقل من 800.000 نازح أو ما يزيد على مليون ونصف المليون، وفقاً لتقديرات سياسية متباينة.
تمكّن مجلس الوزراء، من تجاوز صياغة البيان الوزاري، وجرى الحديث عن عودة آمنة، وليست عودة طوعية.. وتصدرت قضية النازحين سلم الأولوية لدى قوى محلية، قبل الحكومة، وشكّل حزب الله آلية تنفيذية، عملت لبعض الوقت، ولا نجد لها اليوم متابعة، كذلك الحال بالنسبة للأمن العام، فضلاً عن حزب وحيد في مناطق كسروان وجبيل، ينسق أيضاً مع الأجهزة الأمنية..
طرحت المبادرة الروسية لإعادة النازحين، ولاقت تأييداً، بين الظرفي والفعلي، من دون أن يكون لها آلية عملية، فلا تشكّلت اللجنة العليا، أو لم يكتمل تشكيلها.. ولكن لا أثر عملياً لها، سواء في بعدها اللبناني، أو السوري، أو حتى الدولي، روسيا والدول المانحة، والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، (وهنا النازحين)..
ويقال، أنها ستكون البند الأول على جدول أعمال قمّة الرئيس اللبناني عون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.. في محاولة لدفع المسألة وإخراجها من الفكرة إلى التنفيذ..
من جملة الوقائع الجارية، منذ سنوات، تبدو جلية مسألة الثقة.. إذاً، الخلاصة لغاية الآن: عدم الثقة بالجهود أو النيّات أو الأفعال التي طرحت حول عودة النازحين إلى سوريا، سواء أكانت طوعية أو قسرية، آمنة، أو غير آمنة.. هذه توصيفات، لا معنى لها، بمعايير ما هو مرسوم أو مطروح، سواء لجهة الأهداف البعيدة أو المخططات الكامنة أو الآيلة إلى الحدوث المستقبلي.
جاء مؤتمر بروكسيل رقم 3، حول سوريا.. من زاوية مسألة النزوح، ليحدث الشرخ، غير البسيط بين رأس السلطة، (إذا ما نظر إلى باسيل أنه يمثل تيّار رئيس الجمهورية).
فماذا في الأفق؟
في منتصف التسعينات، اكتشف العلماء ان الخلية العصبية المرآتية (Mirror neuron) التي تنشط عندما يرى شخص شخصاً يؤدي عمل ما، فتصبح الملاحظة متماهية مع التصرَّف.. هذا ينطبق على تصرّف فريق لبناني، يبني مواقف من «النزوح السوري» على خلفيات تاريخية (التجربة الفلسطينية) وثقافية (هوية مغايرة لهوية الفريق الرافض أو المستعجل على إعادة النازحين)، وحتى خلفيات ديمغرافية، ومهنية، وأخرى تتعلق بمجالات العمل.. ورفض القبول أو الاندماج..
هذا يفسّر حجم الاستنفار، الذي يبديه التيار الوطني الحر، ورئيسه.. إن الوقت بالنسبة لهذا الفريق (وربما يكون على حق) حيوي.. فالمؤتمرات التي تعقد، من وجهة نظره، تعني شيئاً واحداً، إبقاء هؤلاء لوقت طويل في المجتمعات المضيفة، بصرف النظر عن العواقب أو النتائج المترتبة على بقاء النازحين في أوطان غير وطنهم.. فتنشأ، برعاية دولية، سواء عبر الإقامة الدائمة، أو تمويل فرص العمل، أو توفير الرعاية الصحية والتعليمية، التي، وان كان لها بعد إنساني، وحضاري، يتفق مع أهداف التنمية المستدامة، المقررة للعام 2030، من ضمن أهداف الألفية الثالثة..
ومن سير الوقائع ان القرار الأممي في ما خصَّ النازحين يقضي بـ:
1 – تأجيل البحث بعودة هؤلاء إلى بلدهم..
2 – ربط العودة بترتيبات، قد لا تتعلق بالحل السياسي في سوريا، بل إعادة بناء وقائع البناء الديمغرافي في الشرق الأوسط، الذي تنخر كياناته صراعات عرقية، وقومية، ودينية ومذهبية، بعضها يتعلق بعدم نضج خرائط المصائر الجديدة لشعوب المنطقة، وبعضها يتعلق بمآل صفقة القرن، والصراعات على غاز المنطقة، وخيراتها وحدود تقسيم العمل الجديد، على النطاق الإقليمي من ضمن خارطة تقسيم العمل على النطاق الدولي، سواء في ما خصَّ قوة التنين الصيني، أو النمور الآسيوية، أو مصائر دول العشرين فضلاً عن الدب الروسي، الذي يردّ بأسلحة الحرب الباردة، على محاولات التفرُّد والهيمنة الأميركية على مقدرات الكوكب..
هل قضية النازحين السوريين، هي بهذا الحجم؟
الإجابة تتوقف على مسار الأمور المتعلقة بهذا الملف، والأسئلة هنا، لا تتوقف، فماذا عن دور الوطن الأم أو الدولة السورية؟ ما المبادرات التي تتخذها لإعادة هؤلاء، ما دام في السنة الواحدة، يولد مئات ألوف الأطفال السوريين، في البلدان المضيفة؟.
وماذا عن بناء «المستقبلات» الخاصة بالعائلات النازحة، التي تمضي عقوداً في «الملاذات الآمنة»، أو «الأوطان البديلة».. فالأولاد الذين يولدون خارج سوريا، هل يبقون سوريين؟
أبعاد كثيرة للخوف «المسيحي» من ديمومة استمرار النازحين، لسنوات أطول في لبنان.
وفي هذا المناخ المناوئ للنازحين.. لا يُخفي كتّاب ومتابعون، ورجال دعاية، فضلاً عن الأحزاب والروابط والهيئات، وحتى الكنيسة من التحذير من خطر بقاء النازحين.. بمؤامرة أو بتراضي الدولة السورية، أو غض نظر أطراف لبنانية عن هذا البقاء..
في العالم، تحوّلات مذهلة على صعيد «الإنتقالات البشرية» سواء عبر الهجرة الشرعية أو غير الشرعية، أو عبر الحروب وسياسات التهجير، أو عبر الاستيطان، تعيد بناء جدران الإسمنت (جدار المكسيك بين المكسيك والولايات المتحدة) أو العنصرية الحاقدة، مثل شعارات «انكلترا للإنكليز» أو شعارات سفاح نيوزيلندا «تارنت» الذي وصف قتله بسلاح حربي لأكثر من 50 مصلياً مسلماً في مسجدين في نيوزيلندا لتقليص الهجرة، ووصف المهاجرين من بلاد الإسلام بالغزاة الذين عليهم ان يتحملوا نتائج غزوهم «لأرض الغير»..
الخلاف اللبناني، ليس مسألة عابرة، حول النازحين، هو خلاف، قد يزلزل أرض التعايش الحكومي.. فهل يُمكن احتواؤه، وكيف؟! الخوف من الآتي الأعظم.. في محلّه.. وكذلك الرهان على العقل في احتواء التصعيد؟!