صدر اليوم العدد 66 من مجلة “الامن العام”، وفيه افتتاحية للمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم تحت عنوان: “وثيقة الأمان السياسي”، وقد جاء فيها:
“الوثيقة التي وقعها قداسة الحبر الاعظم البابا فرنسيس وشيخ الازهر الشريف الامام الاكبر احمد الطيب، على هامش مؤتمر الاخوة الانسانية في العاصمة الاماراتية ابو ظبي، وإن كانت قطعا وثيقة عالمية للسلام والتعايش بين ابناء الاديان المختلفة، هي ايضا وثيقة “الامان السياسي”. جاءت لتطوي سنوات من الكراهية والجرائم التي ارتكبت باسم الدين، وكانت قد بدأت منذ هجمات 11 سبتمبر عام 2001، فيما العالم برمته يستعد لاعلان شبه القضاء على تنظيم داعش، الرديف المشابه لتنظيم القاعدة واخواته.
حتما لم يكن البابا فرنسيس والامام الاكبر احمد الطيب يرميان الى مباشرة السياسة نيابة عن الحكومات في العالم. لكن كلا منهما من موقعه، وبما يمثل، كللا بوثيقتهما انتصارا على حرب مديدة وقع العالم عليها منذ بداية الالفية الثالثة، وكادت تزيل دولا برمتها عن الخارطة، وسقط فيها عشرات الاف الضحايا الابرياء، ناهيك عن الاستنزافات الاقتصادية والتبدل الديمغرافي، والاختناق الاجتماعي والانساني، التي اجهدت حكومات العالم، فكان الانفاق على هذه الحرب يأخذ من امام التنمية والتعليم والتطوير والصحة.
الاهم في هذه الوثيقة، انها جاءت فيما كان جانب آخر من العالم يقرع طبول الحرب بين اعلان من هنا، وآخر من هناك عن انسحاب من اتفاقات صاروخية على طريق سباق جديد الى التسلح الصاروخي. وهي بهذا المعنى جاءت لتقدم السلام العالمي على الميل الفطري للدول الكبرى وصراعاتها على تسيد العالم وموارده. وليس مغالاة على الاطلاق اعتبارها وثيقة للشعوب والامم التي تؤمن وتسعى الى الاستقرار والتعايش بسلام عادل وكامل.
ما يثير الانتباه في هذا السياق، ذاك البند الذي ورد فيها ان “الحوار بين المؤمنين يعني التلاقي في المساحة الهائلة للقيم الروحية والانسانية والاجتماعية المشتركة، واستثمار ذلك في نشر الاخلاق والفضائل العليا التي تدعو اليها الاديان، وتجنب الجدل العقيم”. فالجميع مدعو الى ان يتلاقى مع الآخر من موقعه كانسان اولا واخيرا، وليس انطلاقا من هويات ضيقة. ذلك ان الاعتقاد وممارسة الشعائر مسألة محض شخصية، “فلا اكراه في الدين”.
ولأن القيم الروحية هي واحدة من جسور العبور الى السلام الحقيقي، فإن هذه الوثيقة التاريخية هي دعوة حقيقية الى التغيير اولا، وإسقاط القناع عن الارهاب الذي يتمترس بالدين ثانيا، وتترجم التضحيات والتطلعات لإرساء قيم الخير والمحبة بين مختلف الشعوب والثقافات في مواجهة الشر والعنف اللذين سيطرا على العالم خلال السنوات الماضية، إذ طغى الخطاب الديني العنصري.
نجح القطبان الاسلامي والمسيحي في الانتقال بسلاسة من البعد الديني لهذه الوثيقة إلى الحيز السياسي. فهما ذهبا الى اعتبار ان وجع العالم ذاك الذي يقع “سواء على مستوى التقدم العلمي والتقني، والانجازات العلاجية، والعصر الرقمي، ووسائل الاعلام الحديثة، ام على مستوى الفقر والحروب، والالام التي يعاني منها العديد من اخوتنا واخواتنا في مناطق مختلفة من العالم، نتيجة سباق التسلح، والظلم الاجتماعي، والفساد، وعدم المساواة، والتدهور الاخلاقي، والارهاب، والعنصرية والتطرف، وغيرها من الاسباب الاخرى”.
هذا التكثيف السياسي على وجه الدقة، كان موجها الى قادة العالم وحكوماته، كما الى المفكرين والفلاسفة، للتوقف عند ما حققته “الحضارة الحديثة” من ايجابيات. لكن مع التنبه وبدقة، الى ما خلفته ايضا من آثار سلبية دفعت كثيرين الى دوامات التطرف المتعدد المسميات، وقد اثبتت حركة التاريخ ان التطرف لا يولد الا العنف والكراهيات وحب السيطرة والتحكم.
وإذ انطلقت هذه الوثيقة باسم الله، وباسم النفس البشرية الطاهرة، وباسم الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين، وباسم الايتام والآرامل والمهجرين والنازحين، وباسم الشعوب التي فقدت الامن والسلام والتعايش، فإنها ذهبت إلى الاهم حيث ما يقلق العالم حتى الساعة من “اماكن يجري اعدادها لمزيد من الانفجار، وتكديس السلاح، وجلب الذخائر في وضع عالمي تسيطر عليه الضبابية وخيبة الامل والخوف من المستقبل …”. وهذا كله حقيقي وواقعي. لكن المقلق في الامر هو ان التاريخ ما برح يتكرر في توليد النزاعات والحروب، على الرغم من وضوح كوارثها ونتائجها وغياب حسناتها.
وبما أن الامن هو حاصل للسياسة وليس العكس، فإن الامان السياسي الذي يرتجى ان تحققه الوثيقة الموقعة بين البابا فرنسيس والامام الاكبر احمد الطيب، يبقى معلقا على ارادات وقرارات الدول الكبرى، وصناع السياسات الدولية والاقتصادية العالمية، وكذلك على قدرة الطرفين في كبح التطرف الديني الحاصل. وكذلك في القدرة على معالجة تصاعد التوجهات القومية التي تتبدى في الكثير من الدول، والتي لا يقل خطرها عن مخاطر التطرف الديني، والتي لا تبشر بالخير ابدا.
هذه الوثيقة، على اهميتها، يخشى عليها من ان تبقى مجرد وثيقة ما لم تقترن بافعال مادية وتشريعية تطاول استخدام المقدس في المدنس، اي استخدام الدين في الاعيب السياسة وشياطينها ليصبح منظومة عنفية. المطلوب العمل على ارساء مبادىء الحرية، ايمانا واعتقادا وتعبيرا، بمواجهة فوضى الفتاوى التي يتلطى بها البعض، والتي خرجت على كل القيم الروحية، وسفكت الدماء في اصقاع الكرة الأرضية. بهذا وحده يمكن التأكيد على ان الارهاب ليس ليس له دين”.