ليست هذه الإنطلاقة التي يريدها ويتمناها الرئيس سعد الحريري لحكومته الجديدة، من السابق لأوانه الحديث عن تعثر أو إنتكاسة، ولكن ما يحدث يطلق إشارة مبكرة غير مطمئنة ويوحي أنه إذا استمر هذا المنحى سيكون من الصعب على الحكومة أن تحقق أهدافها وأن تكون حكومة منسجمة ومنتجة، وسيكون من الصعب على الحريري أن يستمر على تفاؤله وإقناع المجتمع الدولي بأن الحكومة قادرة على الإيفاء بالتعهدات وتطبيق الإصلاحات وتنفيذ برنامج «سيدر» وأنها جديرة بالإحترام والدعم.
في البدايات، في فترة زمنية وجيزة وفي غضون أيام قليلة، واجه الرئيس سعد الحريري ضغوطا سياسية لم تكن في حسابه ومتاعب ومشاكل من هنا وهناك تتعارض مع «زخم الإنطلاقة الحكومية»، ومع الصورة التي رسمها الحريري لحكومته و«الإطار غير السياسي» الذي رسمه له:
1- الجلسة الأولى لمجلس الوزراء في قصر بعبدا شهدت إشتباكا سياسيا حادا بين رئيس الجمهورية ووزراء القوات اللبنانية أنهاه الرئيس عون بأن رفع الجلسة رافضا أي إستفزاز وتشكيك في سياسته ومواقفه، ومؤكدا على صلاحياته كرئيس للجمهورية مؤتمن على الوطن والدستور، وهو من يحدد مصلحة لبنان العليا، لم يكن الحريري طرفا في هذا السجال، ولكنه ظل صامتا تحت وقع المفاجأة من جهة، ولأنه لا يريد الدخول في مشكلة مع رئيس الجمهورية ومع حلفائه من جهة ثانية، ولأن الحكومة في غنى عن أي توتير سياسي في هذه المرحلة من جهة ثالثة.
انتهت الجلسة الحكومية عند هذا الحد، ولكن مفاعيلها ومضاعفاتها لم تنته معها، وبينما كان الرئيس ميشال عون يتلقى دعما واضحا ومباشرا من البطريرك بشارة الراعي الذي زار قصر بعبدا في اليوم التالي، كان الرئيس الحريري يتلقى سيلا من الأسئلة التي امتزجت فيها الأبعاد السياسية والدستورية: حلفاء الحريري في الحكومة (القوات والاشتراكي) لم يفهموا سبب صمته وما إذا كان علامة رضا وتفاهم مسبق وغير معلن بين رئيسي الجمهورية والحكومة في مجمل الملف السوري؟! وأوساط في المستقبل وأخرى سياسية في الطائفة السنية، لم تتقبل الإندفاعة الرئاسية في موضوع الصلاحيات وعبرت عن مناخ التململ كتلة «المستقبل» في بيانها، والذي تضمن انتقادا «للسجالات التي شهدتها جلسة مجلس الوزراء وقدمت للرأي العام مشهدية حكومية سلبية بدل أن تتركز على مضمون جدول الأعمال وهموم المواطنين، كما تضمن إشارة سياسية غمزت من قناة المزايدين في موضوع الصلاحيات والمراهنين على «شرخ الصلاحيات» بين رئاستي الجمهورية والحكومة، فأكدت على التعاون بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء كمسألة لا يصح أن تكون محل شك أو جدل، ونبهت من الرهان على العودة الى تجارب الإختلاف بين الرئاستين وتداعياتها على إدارة شؤون الدولة، وهو الأمر الذي سبق للرئيس سعد الحريري أن حذر منه ووضعه في خانة تعطيل الدولة وعمل المؤسسات».
٢- بالتزامن مع الجلسة الحكومية الأولى، كان الحريري يتلقى خبرا غير سار هو إبطال المجلس الدستوري نيابة ديما جمالي عضو كتلة المستقبل، وهذا الإبطال الوحيد بين كل الطعون النيابية المقدمة فوجئ به الحريري وباغته، ولكنه قرر رد التحدي سريعا بإعادة ترشيح جمالي، ولكن ما ساور الحريري من غضب واستياء ازاء ما حصل لم يظل مكتوما، وإنما خرج الى العلن وظهر من خلال بيان كتلة «المستقبل» الذي حرصت رئيسة الكتلة النائب بهية الحريري على تلاوته وفيه إنتقاد للمجلس الدستوري وإشارة صريحة الى «الغدر» الذي تعرض له الحريري والى «كيدية سياسية»، المسألة ليست مسألة خوض الانتخابات الفرعية في طرابلس والفوز بها، وإنما مسألة أن هناك من يصر على استفزاز الحريري والدخول الى ملعبه وإبقائه في وضع غير مستقر، بحيث بدت المعركة النيابية على المقعد السني الخامس في طرابلس امتدادا للمعركة الحكومية على المقعد السني السادس بين الحريري و«اللقاء التشاوري» (السني) الحليف لحزب الله، مع ما يعنيه ذلك من محاولة لتكريس واقع جديد داخل الطائفة السنية، واقع أن الحريري لم يعد يمثلها لوحده وهناك من ينازعه ويقاسمه التمثيل السني.
٣-في خضم انشغال الحريري بمعالجة التشققات والتوترات الحكومية وإطلاق التحضيرات لمعركة إثبات الوجود في طرابلس، حصل تطور آخر يعنيه ويطاله بشكل أو بآخر ولا يمكنه أن يكون ويظل في منأى عنه، فقد تحولت الحرب المفتوحة التي أعلنها حزب الله ضد الفساد منطلقا من الملفات الكبيرة وحسابات الدولة المالية وبمفعول رجعي يعود الى حقبة ما بعد العام ٢٠٠٥، الى مشادة عنيفة بين الحزب والرئيس فؤاد السنيورة الذي اعتبر أنه المستهدف بهذه الحملة، وأن هذا الإستهداف يحصل لأسباب سياسية، ولتصفية حسابات المرحلة الماضية، ذلك أن السنيورة مقتنع أن حزب الله يكرهه ولا ولن ينسى دوره في مفاوضات القرار ١٧٠١ وإنشاء المحكمة الدولية، وفي صموده أمام حصار السرايا و٧ أيار، وفي توليه إدارة عملية تمويل إعادة إعمار الضاحية.
يمكن للرئيس الحريري أن يبعد السنيورة عن مجلس النواب ورئاسة كتلة المستقبل في إطار خطة الحد من دور الصقور، ولكنه لا يمكنه التنكر لماضي ودور السنيورة في المرحلة الإنتقالية الصعبة بعد العام ٢٠٠٥ الذي يعتبره الحريري دائما دورا مشرفا، ولا يمكنه إغفال تأثير السنيورة في المرحلة الراهنة، إن لجهة رمزيته أو دوره السياسي الموجه والرقابي، خصوصا في ما يتعلق بدور وصلاحيات رئاسة الحكومة وفي إطار نادي أو مجموعة رؤساء الحكومات السابقين الذين لعبوا دورا من خلف الستار أثناء عملية تشكيل الحكومة، وكل مرة تكون فيها رئاسة الحكومة أمام تحد أو في مأزق.
إذا كان حزب الله لم يأت على ذكر السنيورة أو تسميته بالإسم، فإن السنيورة جاء على ذكر حزب الله وسماه وشن ضده وعلى طريقة الدفاع الهجومي حملة قوية بدأها أمس الأول ويستكملها غدا الجمعة بالأمس تكلم السنيورة سياسيا وقال إن هذه الحملة التي يخوضها حزب الله والتي ادعى فيها البدء بما سماها مكافحة الفساد في لبنان «هي في دوافعها ومعالمها الأولى حملة إفتراء وتضليل تشن بأهداف سياسية مخطط لها ومحسوبة ليس لمحاربة الفساد والفاسدين بشكل فعلي وصحيح، ولكن لحرف انتباه الرأي العام اللبناني وشغله بقضايا أخرى للتعمية على ارتكابات جرى اقترافها من قبل مدعي محاربة الفساد وكذلك للتعمية على قضايا مهمة أخرى يعرفها هو حق المعرفة» غدا وبعد يومين سيتحدث السنيورة بالأرقام والوقائع مفندا ومبينا كيف صرف مبلغ ١١ مليار دولار على حاجات الدولة والمواطنين وبالطرق القانونية.
الحريري لا يمكنه أن يقف في «معركة السنيورة مع حزب الله» موقف المتفرج، وليس أمامه إلا المسارعة الى تفكيك هذا اللغم الذي يصيب بشظاياه عمل الحكومة ومناخها ومنحاها العام، ولذلك توجه ليلا الى عين التينة للقاء الرئيس نبيه بري واحتواء الموقف وإبلاغه أن الحملة التي بدأها حزب الله عبر النائب حسن فضل الله ضد الفساد لا تستهدف السنيورة فقط وإنما تستهدفه هو سياسيا وتعود بالضرر على الحكومة، وربما أبلغه أيضا أن ما يحدث يعود أيضا بالضرر على حزب الله ومصداقيته في الحملة على الفساد إذا ما تبين أن فتح هذا الملف كان بهدف الوصول الى السنيورة ورموز المرحلة السابقة، والى تصفية حسابات سياسية.
الانباء