محمد علي فرحات:
فيما تفكّر شخصيات ودوائر إقليمية ودولية بجعل النظام السياسي اللبناني نموذجاً لما يمكن أن يؤول إليه النظامان العراقي والسوري، يأخذ زعماء لبنان وطنهم إلى حافة الهاوية عبر صراعهم الحاد على النفوذ في الإدارات العامة وفي العلاقة السياسية مع المحيط والعالم، فكأنّ هؤلاء يواصلون بالسياسة مسارهم القتالي خلال الحرب الأهلية.
والواقع أن النظام اللبناني الذي اعترف بالأديان والطوائف أدى إلى حريات عامة مدنية، وأسس لأشكال من العمل الحرّ جعلت من القطاع الخاص نموذجاً اقتصادياً وثقافياً قادراً على الحضور المتكافئ في العالم المتمدّن. وتخرّجت من مدارس لبنان وجامعاته، القائمة على حرية التعليم، أجيال من الكادرات القيادية الحاضرة في وطنها والعالم العربي وأوروبا وأميركا.
يصل زعماء لبنان إلى درجة من التعب تؤثر سلباً على الدولة والشعب، وكلما علا صراخ هذا الزعيم أو ذاك نتأكد أن حضوره السياسي يتراجع ليقتصر على طائفته أو بعضها. ويفتقد اللبنانيون اليوم زعماء عابرين للطوائف والمناطق مثل كميل شمعون وكمال جنبلاط، وهم حين يسمعون الخطب ويقرأون التغريدات يشعرون أنهم في قرية صغيرة، لا في وطن كان حلماً لرواد مؤسسين أرادوه موئل حرية وانفتاح على حضارات العالم.
يعتبر الوزير اللبناني وائل أبو فاعور اللقاءات الأولى للوزراء الجدد، إعلاناً أوّلَ بعدم تميّز الحكومة عن سابقاتها، وأنها هي أيضاً حلبة صراع بين القوى الطائفية أكثر من كونها سلطة تنفيذية تتعاون في تطبيق القوانين وفي إصدار مراسيم تضبط حركة الإدارة من أجل المصلحة العامة. وتضاف إلى كلام أبو فاعور، وتسبقه أحياناً، تغريدات الزعيم وليد جنبلاط التي تؤسس لمعارضة تدافع عن اتفاق الطائف وتعتبر الحراك السياسي للوزير جبران باسيل مصادرة لدور الحكومة مجتمعة ورئيسها، الملحوظين في ذلك الاتفاق مركزاً وحيداً للسلطة التنفيذية.
لن تشبه الحكومة الجديدة ما يعتبره رئيس الجمهورية ميشال عون تجمُّعاً سياسياً متناغماً مع الانطلاقة الفعلية لعهده، وبالتالي ينضم الرئيس إلى أسلافه الذين رعوا الحرب الأهلية الباردة واكتفوا بمنع اشتعالها ثانية. في هذه الأجواء تبرز مقولة الديموقراطية التوافقية التي تؤدي إلى حكومات وحدة وطنية تتمثّل فيها القوى السياسية الناجحة في الانتخابات البرلمانية. وبهذا تكون الحكومة، بما هي مع رئيس الجمهورية سلطة تنفيذية، مختصراً للبرلمان بما هو سلطة تشريعية منتخبة. هنا يحرم زعماء الطوائف الدولة من مبدأ فصل السلطات، ويحولون السلطة الثالثة (القضائية) إلى تابع للزعماء يلبي أوامرهم أو يراعي مصالحهم في الحد الأدنى. وما الإشادة بالقضاء التي نسمعها من هذا الزعيم أو ذاك سوى تغطية للوضع المؤسف الذي يدفعون القضاء إليه.
ما يجري في لبنان هو تدمير الحدود بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإشاعة مفاهيم التوافق التي تعني بالتحديد المحاصصة وجعل موارد الدولة منهبَةً للأقوياء، ما يؤدي إلى عجزها عن إدارة شؤون المواطنين.
وفي هذا الانهيار السياسي يبدو المجتمع المدني اللبناني محلّ تقدير وإعجاب، لكونه تحمّل الحروب الحامية والباردة منذ العام 1975، وبقي محافظاً على الحدّ الأدنى من وجوده في ما تبقى من القطاع الخاص والهيئات التعليمية والثقافية والإعلامية، وفي حفظ شيء من الصور الزاهية للحريات الفردية والجمعية التي تميّز بها لبنان منذ نشوء دولته في عشرينات القرن الماضي، تلك المستندة إلى تجارب قديمة في الحكم الذاتي مع عدد من أمراء الشوف ومع مجلس إدارة المتصرفية منذ ستينات القرن التاسع عشر.
لم يصل لبنان إلى خط النهاية، فثمة أصواتٍ تعلو ورئات تتنفّس في أجواء الطائفية والمحاصصة والكلام الكبير الذي يضمر أهدافاً صغيرة. لم يصل لبنان إلى خط النهاية، إنما زعماء الطوائف وحدهم من يستشعرون ذلك.