لن يكون الأسبوعُ الطالعُ موعداً للانطلاقةِ الفعلية فحسب للحكومة اللبنانية الجديدة، التي تَأخّرتْ ولادتُها نحو تسعة أشهر، بل نقطةَ البدايةِ التي أرادها رئيسُ الجمهورية العماد ميشال عون لولايته في الحُكم، رغم مرور عامين ونيّف على انتخابه، وهو الذي قال يوماً إن عهدَه يبدأ مع حكومةِ ما بعد الانتخابات النيابية التي جرتْ في مايو الماضي.
وبهذا المعنى، يمكن فهْمُ الأبعاد الفعلية للمعارك الضارية التي خيضتْ في الطريقِ الى تشكيل الحكومة، رغم ما انطوتْ عليه من أثمان خطرة مع بلوغ لبنان منزلقاتٍ مالية غير مسبوقة، تماماً كما يمكن إدراكُ مغزى ورشاتِ تقويم الربح والخسارة في لعبة اقتسامِ السلطة بين المكوّنات الرئيسية، السياسية والطائفية، وما تؤشر إليه في سياقِ الصراع الإقليمي في لبنان.
فالحكومةُ الجديدة، التي تُقِرُّ في غضون أيام قليلة بيانَها الوزاري إيذاناً بنيْلها الثقةَ في البرلمان، جاءت وليدةَ سلسلةٍ من المعارك القاسية التي اقترنتْ بعباراتٍ من نوعِ ليّ الأذرع، عضّ الأصابع، القفْز على الشجرة، ومن شجرة إلى شجرة، وما شابَهَ من صورٍ مُتَخَيَّلَةٍ عكستْ شراسةَ الكرّ والفرّ بين اللاعبين المحليين في عمليةِ تعديلِ التوازنات داخل السلطة.
ولم يكن عابراً أن ضجيجَ المعارك ارتبطَ بعناوين داخلية وإقليمية، اعتُبرت «أوراقاً مستورةً» في لعبة الصراع على السلطة و«قُطَباً مخْفيةً» تحكّمتْ بهنْدسة الصيَغ الحكومية وعمليةِ ترسيمِ الأحجام والمعادلات الرقمية، وهو ما يدْفع الجميع الآن إلى وضْع «جداول مقارَنةٍ» بين «حسابات الحقل وحسابات البيْدر».
ومن العناوين التي اقترنتْ بالمعارك في الطريق إلى تشكيل الحكومة الثلاثينية برئاسة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، يمكن رصْد الأكثر إثارة فيها على النحو الآتي:
• العنوانُ المبكّر الذي اختاره قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني عندما تحدّث غداة الانتخابات النيابية عن أنه سيكون في لبنان «حكومة مقاومة»، نظراً لما اعتبره «انتصاراً» لـ«حزب الله» (وحلفائه) في حصْد 74 نائباً من أصل 128 في البرلمان الجديد.
هذه الحصيلة جاءتْ ثمرةَ قانونِ انتخابٍ أدار «حزب الله» معركةَ فرْضِه من الخلْف، بعدما تعاطى معه على أنه يرْقى إلى مستوى «حربٍ» لا بدّ من كسْبها، كونه يجعل منه قاطرةً لتحالفاتٍ تقبض على البرلمان، وهي المعادلةُ التي فرضتْ نفسَها على التوازنات داخل الحكومة التي انقلبتْ فيها الدفةُ من مكانٍ إلى مكانٍ فحاز «حزب الله» وحلفاؤه أقلّه على 18 وزيراً، وتالياً فإنها «حكومة مقاومة وأكثر» بالمعنى الاستراتيجي لاستنادها الى تَحالُف «حزب الله» وحزب الرئيس عون «التيار الوطني الحر».
• معركةُ قضْم السلطة وتطويعها التي خاضها «حزب الله» متسلّحاً بنتائج الانتخابات وفائضِ القوّة بما مَكّنَهُ من الفوز بنقاطٍ ثمينة عدة في الطريق إلى إحداثِ «تعديل جيني» في اتفاق الطائف وتَقاسُم السلطة. فهو أولاً «شكّل» مع حليفه رئيس البرلمان نبيه بري حصّه الوزارية حتى قبل مشاورات التأليف حين «حَجَزَ» المقاعد الستة (المخصصة للمكوّن الشيعي في حكومةٍ ثلاثينية) واختار حقائبها، ولا سيما الصحة له والمال لبري، وتمكّن ثانياً من الاحتفاظ بوزارة المال بذريعة أنها تشكّل «التوقيع الميثاقي» الثالث (الشيعي) في الدولة الى جانب رئيسيْ الجمهورية والحكومة، وأتاح لنفسه ثالثاً اللعب في الحدائق الخلْفية للآخَرين حين فَرَضَ تمثيل نوابٍ سنّة موالين له، وفَرَضَ رابعاً أعرافاً غير دستورية حين تَحَوَّلَ شريكاً مُضارِباً في تشكيل الحكومة الى جانب الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية.
• العنوانُ المرتبطُ بخلافة عون في الرئاسة، وهو عنوانٌ طُرح مبكّراً أيضاً عندما تحدّث رئيس الجمهورية بعيْد انتخابه، وربما في أوّل إطلالة إعلامية له عبر وسيلةٍ فرنسيةٍ عن أنه لا يفكّر بالتمديد إنما يعدّ «خليفتَه»، وهو ما انفجر مع انطلاق مسار تشكيل الحكومة الجديدة حين اتُّهم رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل بالسعي إلى القبض على «الثلث المعطّل» فيها لتمكينه من فرْض نفسه مرشَّحاً قوياً، وبلا مُنازِع للرئاسة.
وليس جديداً القول إن معركة «الثلث المعطّل» شكّلتْ لغماً في العلاقة بين الحليفيْن «حزب الله» و«التيار الحرّ» في ضوء أزمةِ ثقةٍ فعلية نجمتْ عن شكوكٍ متعاظمة من الحزب حيال السلوك الداخلي والخارجي للوزير باسيل، وهي أزمةٌ مرشّحةٌ لمزيد من التفاعُل مع انتقال التحالف بينهما من تواطؤ (بين مشروعيْن) أرادَه عون للوصول الى السلطة و«حزب الله» لترويض الداخل بما يخدم مشروعه الإقليمي في لبنان، إلى ما يمكن أن يصبح تَصادُماً لأن «العونية» تريد أن تَحْكُمَ والحزبُ يَمْضي في تغيير قواعد اللعبة.
وتعكس التسويةُ التي انتهى إليها الصراعُ حول «الثلث المعطّل» بعدما جاءت «كلمة السرّ» الإقليمية للإفراج عن الحكومة، مَخْرجاً غير مفاجئ. فـ«حزب الله» الذي كان يحرصُ على حرمان باسيل من انتصارٍ ولو في الشكل، اختار احتواء الموقف عندما قرّر، وعلى طريقة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، وضْعَ وزيرِ كتلة النواب السنّة الموالين له «وديعةً» في تكتّل الرئيس عون على أن يحْتفظ الحزب بـ«الرعاية السياسية» له.
• خروجُ الحريري من هذه المعركة، الداخلية وبأبعادها الإقليمية، بنتائج «رمادية» تعكس أساساً اختلال موازين القوى في المنطقة وحالَ التصدُّع في المحور العربي. فبالرغم من أن زعيم «تيار المستقبل» نَجَحَ في رمزيته، كزعيمٍ أول للسنّة في لبنان وحليفٍ للمملكة العربية السعودية، بالبقاء في السلطة كـ«حاجةٍ» للجميع ولاستقرار لبنان، إلا أنه اضطُر إلى التسليم بموازين القوى عبر تنازلاتٍ وإن تَمَكَّنَ من الحدّ منها ومقاومتها.
فالحريري الذي كان أَقْدَمَ على التحوّل الأهمّ في «مُخاطَرتِه الكبرى» حين دَعَمَ وصول العماد عون الى الرئاسة (العام 2016)، يَمْضي في هذه التسوية وموجباتِها رغم أنه قال يوماً إنه لم يعد قادراً على إقناع نفسه بلعب دور «أم الصبي» لاضطراره إلى الدفْع «من كيسه» لمنْع بلوغ البلاد الحائط المسدود، وتالياً هو ما زال يُعْلي شراكتَه مع عون وتياره على تحالفاته مع الآخرين، التي تحتاج الى صيانةٍ مستمرّة، كما هو الحال مع حزبيْ «القوات اللبنانية» و«التقدمي الاشتراكي»، لمرورها دائماً في صعودٍ وهبوطٍ، على غرار ما يحْدث الآن مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
… بقي رئيساً للحكومة، حافَظَ على الحدّ الأدنى من حجم كتلته الوزارية، لم يعْطِ من حصّته لتوزير النواب السنّة الموالين لـ«حزب الله» وفَرَضَ أن يكون هذا الوزير ممثّلاَ عنهم لا من بين صفوفهم، مَنَع قيام حكومةٍ «مُفَخَّخَةٍ» من 32 وزيراً، اضطُرّ لغضّ الطرف، من دون أن يُسَلِّم، لأعراف غير مألوفة في تشكيل الحكومة، صَمَدَ في وجه حملاتِ الضغط التي مورست عليه للاعتذار تحت طائلة العودة بالتكليف الى البرلمان وما شابَه.
… لم يكن أمام الحريري أفضل مما كان. فسورية تحوّلت «سوريات»، العراق ما زال أرضَ نكبةٍ، اليمن على ويْلاته، ليبيا المُشَلَّعَةُ لم ينطفئ اشتعالُها، البيتُ الخليجي لم يتعافَ بعد، فلسطين على يأسها وانتظارها، الولايات المتحدة خطوة إلى الامام خطوة إلى الوراء، وأوروبا تُعانِد مشكلاتها، ولبنان حدِّث… ولا حَرَج.
وسام أبو حرفوش – الراي