وُلدت الحكومة بعد «كباش» عنيف حول نقطة الخلاف الأساسية: هل يُتاح لـ«حزب الله» (تالياً إيران) أن يسيطر على غالبية القرار في الحكومة المقبلة أم يجب منعه من ذلك، مهما طالت أزمة التأليف؟
في عبارة أخرى، هل اقتنع أحد الطرفين بقبول «الهزيمة الصغيرة»، على مستوى الحكومة في لبنان، أم تمّت تسوية صغيرة بين القوى الإقليمية حول هذه المسألة، تحقيقاً لمكاسب معيّنة أو تجنُّباً لخسائر معيّنة؟
للدقّة، لم يكن موقف «حزب الله» هو المعطِّل الوحيد لولادة الحكومة. فالقوى المتحالفة مع السعودية والولايات المتحدة، من جهتها، كانت تُصرّ أيضاً على منع «الحزب» من السيطرة، مهما طال أمد التأليف، أي أنها التزمت «موقف الدفاع». ولكن «الحزب» هو الذي اعتمد «المقاربة الهجومية»، مستفيداً من كونه اللاعب الأقوى.
العارفون يقولون: «ربما يكون «الحزب» قد قرَّر تغيير المقاربة. فهو بات مقتنعاً بأنّ الضغوط التي تتعرَّض لها إيران في الشرق الأوسط، خلال هذه المرحلة، لا تشبه أي ضغوط سابقة، وأنّ إحتمال أن تقوم القوى الإقليمية والدولية بوضع «ضوابط» لنفوذ إيران وأجنحتها المسلّحة في سوريا، ومنها «حزب الله»، ستكون له مفاعيله في لبنان أيضاً.
ولذلك، يقول هؤلاء، في موازاة الإفراج عن الحكومة، يستفيض «الحزب»، وبالتنسيق مع طهران، في نقاشات داخلية عميقة لا بُدَّ أن تُتَرجَم نتائجُها عملانياً في لبنان.
ومحورها الأساسي هو: هل يمضي «الحزب» في المواجهة المفتوحة أم يعتمد المهادنة لتمرير «القطوع»؟ وهل هناك مجال للعب الورقتين معاً؟
الأوساط القريبة من «الحزب» توحي أنّه حريص على الإيجابية التي أظهرها من خلال عملية التأليف، لكنه في المقابل سيحافظ على عروض القوة التي يمارسها، والتي توفِّر له «التفوُّق المعنوي» على خصومه. وفي عبارة أخرى، هو سينحني قليلاً أمام العاصفة، لئلا ينكسر.
لقد رفض «الحزب» على مدى أشهرٍ ولادة أي حكومة ليست له السيطرة شبه الكاملة على خياراتها الكبرى. ولذلك، هو لم يسمح بمنح رئيس الجمهورية وفريقه السياسي «الثلث المعطِّل» في الملفات الاستراتيجية. فـ«الحزب» يريد أن يكون مطمئنّاً إلى إمساكه بالبلد بإحكام في مرحلة ستكون حافلة بتحدّيات مثيرة للقلق.
وعملياً، هو رضي باستنساخ تجربة «الوزير الملك» في حكومة الرئيس سعد الحريري التي سقطت في العام 2011. فهذا النموذج يحفظ لرئيس الجمهورية ماء الوجه علناً، ولكن، في العمق، يحفظ لـ»الحزب» وزيره المقنَّع الجاهز لـ«التشغيل» في اللحظة المناسبة.
ويريد «الحزب» أن يطبّق نموذج «الوزير الملك»، ولكن معكوساً. ففي تلك الحكومة، أراد «الحزب» من «مَلِكِهِ» أن ينضم إليه لإسقاط الحكومة عندما شاءت مصلحته إسقاطها. وأما اليوم فهو يريده لمنع قيام رئيس الجمهورية بإسقاط الحكومة، إذا شاءت مصلحته أن يمنع إسقاطها.
إذاً، «الكباش» المحلّي الصغير، حول حكومةٍ في بيروت، كان يُترجم «كباشاً» كبيراً وهائلاً يمتدُّ إلى دمشق وبغداد وغزة وصنعاء. وإنهاء «الكباش»، موضعياً، أي بالحكومة حصراً، هو إشارة إلى تقاطع مصالح إقليمي صغير تمَّ في مكان ما، حول شؤون صغيرة في لبنان، لا أكثر، وهو يحظى طبعاً بموافقة واشنطن (صاحبة الحلّ والربط في المواجهة مع «حزب الله») وتشجيع روسيا (الراعي السياسي للتسويات في سوريا) وفرنسا («أم الصبي» اللبناني).
واللافت أنّ تشكيل الحكومة لم يترافق مع دخول أي معطى سياسي ذي أهمية. وحتى ممثِّل «اللقاء التشاوري» يبدو وزيراً «ضائعاً»، وعيناه تتوزَّعان يميناً ويساراً على طاولة مجلس الوزراء، ليعرف من أين يلتقط الإشارة: من هنا أو من هناك. وإذا كانت هذه الصِيَغ باتت مُرضِية الآن لـ«حزب الله» وفريق رئيس الجمهورية، فماذا كان الداعي إذاً لإطالة أمد الأزمة حتى اليوم؟
يقول المتابعون: «الأرجح، ما تغيَّر هو المناخ المحيط باللعبة. فالجميع بات يشعر باستحقاق الخطر الداهم في حال استمرار التعثُّر. وهناك ملامح اهتراء خطر تتزايد.
وفي هذا الشأن، تبرز الرسائل التي يتبلَّغها المسؤولون اللبنانيون من واشنطن، عبر الزيارات المكثّفة والهادئة، لموفديها الديبلوماسيين والأمنيين والماليين، ومفادها أنّ فترة السماح للبنان باتت على وشك الانتهاء، وأن عليه حسم خياره في ما يتعلق بتبنّي الحكومة اللبنانية نهج «حزب الله» السياسي والمالي والأمني.
فالمرحلة المقبلة ستشهد مواجهة قاسية مع طهران على كامل رقعة الشرق الأوسط، وسيكون «حزب الله» في لبنان أمام خيار العودة من سوريا وتعاطي العمل السياسي في لبنان من ضمن المؤسسات أو الاستمرار في النهج الحالي المنخرط سياسياً ومالياً وأمنياً، كجزء من استراتيجية التوسُّع الإيراني في المنطقة.
والجديد في الموقف الأميركي هو إبلاغ لبنان الرسمي، والقطاع اللبناني الخاص، أنّ لا مجال بعد اليوم للمواقف الملتبسة في ما يتعلق بالتزام قانون العقوبات الأميركي المتعلق بتجفيف منابع تمويل الإرهاب.
فالتزام لبنان معايير الشفافية ومنع غسل الأموال بات مسألة لا تتحمّل التأجيل، تحت طائلة اهتزاز الحصانة الدولية التي يتمتع بها لبنان واستقراره السياسي والمالي والأمني. وقد جاء تراجع لبنان في تصنيفه السيادي إلى درجات مُقلقة ليقرع ناقوس الخطر.
يفهم «حزب الله» كل هذه التحدّيات، ويدرك أنّ هوامش حركته ضاقت في سوريا، نتيجة الضغط الروسي والإسرائيلي وعدم قدرة الرئيس بشّار الأسد على استمرار التعاطي مع الحضور الإيراني في سوريا بالطريقة السابقة. ويدرس الحزب كل الحسابات في سوريا ولبنان.
وبالتأكيد، يقاوم «حزب الله» كل المحاولات لإلحاق الهزيمة به في المعركة الإقليمية الكبرى- ولاسيما في سوريا- التي دفع ثمنها كثيراً في المال والرجال. كذلك رفض أن ينهزم في لبنان بعد كل ما دفعه من أثمان.
ووفق ما يقول القريبون من «الحزب»، هو لن يمنح التغطية لأي تسوية في لبنان تعيده إلى نظامٍ يعتبر أنّ القوة فيه كانت مسيحية – سنّية، وكان ضلعُه الشيعي مستضعفاً. لكنه، في الوقت عينه، سيعمل للحفاظ على «الستاتيكو» القائم، وتحقيق أكبر المكاسب من خلاله، إلى أن يصبح قادراً على تحقيق هدفه وتغيير النظام.
فولادة الحكومة تعني أنّ «حزب الله» يريد تمرير «القطوع» وتأجيل المواجهة مع الخيارات القصوى كتغيير النظام. وهذا يعني أنّ البلد سيمضي حالياً في «ستاتيكو» المراوحة اللبنانية والضبابية غير الخلاّقة، إلى أن تحين الساعة.
وقد تدرَّب «الحزب» جيداً على القيادة في الضباب، وهو يطمح إلى بلوغ الهدف أخيراً. وسيتذكر الجميع أنّ «الحزب» بقي الأقوى على الاطلاق في الحكومة الوليدة على رغم كل شيء.