أحمد الغز:
تتوحد الشعوب والافراد حول فكرة قاطرة لمشاعرهم ورغباتهم وطموحاتهم الوجودية، وعندما تموت الافكار تفقد المجتمعات روحها ووجدانها، ويبقى البشر احياء واشبه بالأموات تماما كما نعيش في لبنان هذه الايام، بدون روح وطنية او افكار جامعة، ومع الكثير من النحيب والصراخ والإجابات الجاهزة والبطولات الوهمية، وبدون اي مبادرة عاقلة او اي مجموعة منشغلة بالأسئلة حول كيفية اعادة بعث الحياة في الوجدان الوطني الجامع للأفراد والمجموعات، بعد ان اصيب اهل السياسية بالشلل التام بسبب ادعائهم وشطاراتهم الحمقاء وتحويل لبنان الى ما يشبه المقبرة السياسية، يجتمع فيها الناس حول قبور تجاربهم، يستذكرون افكارهم وماضيهم من دون اي قدرة على التفكير بالقادم والضروري والمفيد، ويعيشون في حالة عجز وذهول وهم يتأملون هذه المقبرة الكبيرة لكثرة ما دفن فيها من افكار وتجارب، ايام انشغال قادتهم في ملء بطونهم وجيوبهم مخافة الفقر رغم معرفتهم (انه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان) وان تبسيط تعقيدات الحياة يؤدي الى التسطح والإهمال واللامبالاة.
خلال السنوات الطويلة الماضية شهدت موت فكرة الميثاقية اللبنانية، وموت فكرة دولة الوحدة العربية، وموت فكرة الدولة الوطنية الشهابية، وموت فكرة تحرير فلسطين بالجيوش العربية، وموت فكرة الوحدة اللبنانية خلال الحرب الأهلية، وشهدت موت فكرة الثورة الفلسطينية من الاراضي اللبنانية، وموت فكرة الحركة الوطنية، وموت فكرة المقاومة اللبنانية، والمقاومة الوطنية، وموت فكرة الوحدة الاسلامية وحروب الخليج، وموت فكرة الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية واليمين واليسار، وموت فكرة جدار برلين، وشهدت ايضا موت فكرة الاحادية الاميركية، وموت الفكرة القومية والبعث السوري والعراقي، وموت فكرة العمل العربي المشترك، ونشهد موت فكرة الوحدة الخليجية والاوروبية، وموت فكرة الشرق الاوسط الجديد والفوضى الخلاقة، وموت فكرة الحرب والسلم مع اسرائيل، وموت فكرة لبنان التحرير والازدهار والإنماء والاعمار، وموت الحريات السياسية والإعلامية وتجديد التجربة الوطنية عبر الاغتيالات، وشهدت موت فكرة الاصطفافات السياسية في هذه الساحة وتلك الساحة واستخدام السلاح، ونشهد هذه الايام موت الاستقواء وفرض الأعراف والتفاهمات والاتفاقات والتسويات والانتصارات، وموت الاستهدافات والانقلابات والخيانات والانشقاقات.
عندما تموت الافكار الجامعة تموت السيادة وقواعدها وحدودها الجغرافية والسياسية والمؤسساتية، ويصبح الوطن والمجتمع ملهاة للهواة، وتنتهك حرمة الافراد والمكونات وتعم العدمية والتفاهة والذل والاستتباع، ويصير الناس كل ساعة في حال ويصبح النسيان سر البقاء، عندما يموت العقل يصعب التمييز بين الانسان والحيوان، ولا يعود النطق من علامات الخلق والحكمة عند الانسان، ويصبح الكلام سباباً وشتائم وتفاهات وهلوسات، وتتلاشى المعايير والقيم ويتجرأ الجهلة على العقلاء ويغرد كل على ليلاه.
المكونات السياسية اللبنانية غير قادرة على تحديد اللحظة الراهنة باستثناء ادراكهم القسري بعجزهم، وبأنهم قد اصبحوا حملا ثقيلا على الماضي والحاضر وعلى مستقبل الأجيال، وجعلوا من لبنان مقبرة كبيرة للأفكار والتجارب والانجازات، بعد ان كان لبنان منارة لكل مبدع ومفكر وحالم وباحث عن مطبعة او منبر لحرية التفكير والاعتقاد، وكانت النخب من الاشقاء والاصدقاء تأتي الى بيروت بكل أدب واحترام للعقل اللبناني وفكرة لبنان، وكان كبار الرؤساء يتابعون المقالات اليومية لكبار الكتّاب، ورغم هول الحرب والاحتلال والدمار تجددت التجربة الوطنية وعادت بيروت منارة وفضاء للتفاعل والتعارف والمنافسة مع المدن القريبة والبعيدة قبل ان تموت فكرة خلاص لبنان وتتجدد النزاعات القبلية والطائفية والمذهبية والاستهتار باستقرار الناس الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي والاخلاقي واستقدام كل انواع الفشل والحماقات والادعاءات والسخافات وتحويل لبنان مقبرة سياسية للافكار والإرادات الطيبة.
ahmadghoz@hotmail.com