منذ لحظة تربّعه على كرسي الرئاسة الأميركية أولى ترامب الأزمة الشرق أوسطية الأولوية، فلوّح بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ولوَّح بإعادة النظر في الاتفاق النووي مع إيران، ولم يكتفِ بالتلويح بل أقدم على نقل السفارة وجدّد العقوبات على طهران، وذلك في محاولةٍ لتحقيق خرقٍ مزدوج: خرق على مستوى النزاع العربي – الإسرائيلي من خلال تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيما التطبيع الذي تشهده العلاقات بين تل أبيب وبعض العواصم العربية قد يكون غيرَ مسبوق والسبب مردّه إلى ما يحظى به من تشجيع أميركي.
والخرقُ الآخر على مستوى النزاع العربي – الإيراني أو السني – الشيعي، لأنّ الأزمة في المنطقة لم تعد بوجهٍ واحد او ببعدٍ واحد، بل التركيز الفعلي هو على هذا النزاع أكثر من الأزمة التقليدية مع إسرائيل التي انحصرت بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فيما المسؤولية التاريخية على العرب هي بعدم السماح باستفراد إسرائيل للسلطة الفلسطينية ومواصلة القطيعة معها كورقة ضغط تحقيقاً للسلام العادل والشامل وفق مبادرة السلام العربية.
ولكنّ واقع الحال أنّ خشية الدول العربية لم تعد من إسرائيل ولا من تداعيات النزاع معها، بل خشيتُها متأتّية من التمدّد الإيراني ونفوذه ودوره، وإذا كان عنوانُ النزاع في الشرق الأوسط في القرن العشرين هو عربي-إسرائيلي، فإنّ عنوان النزاع في القرن الواحد والعشرين تحوّل عربياً-إيرانياً، وهذا هو واقع الحال بمعزل عن اعتراف هذا الطرف أو ذاك بهذا الواقع.
فالخطة الترامبية تعمل إذاً على مسارَين إسرائيلي وإيراني، وظروف نجاحها متساوية لاحتمالات فشلها في المسارَين معاً أو النجاح في خطّ والفشل في آخر، وفيما التركيز مع الجانب الإسرائيلي يتمحور حول تسوية مع الفلسطينيين يتمّ العمل عليها، فإنّ التركيز مع الجانب الإيراني يتمحور حول الآتي:
ـ أولاً، تصحيح الإدارة الأميركية للخطأ الذي ارتكبته الإدارة السابقة التي أبرمت تفاهماً نووياً مع طهران من دون الاتفاق معها على دورها في المنطقة، فاستغلّت الاتفاق والرعاية الدولية ورفع الحظر عنها لمواصلة الدور نفسه وبظروف أفضل من مرحلة ما قبل الاتفاق النووي.
فلا يجوز، بمفهوم الإدارة الحالية، أن يتواصل غضُّ النظر عن دور إيران واعتبار الاتفاق النووي معها كافياً بحدّ نفسه، فيما المشكلة كانت وما زالت في هذا الدور الذي تستطيع من خلاله تهديد أمن إسرائيل والدول العربية، وبالتالي امتلاك النووي هو خطوة نوعية ومعنوية لا عملية، فطهران لن تستخدم النووي، ومهما قيل عن قيادتها فهي ليست متهوّرة، ولذلك الخطر الفعلي هو من دورها المتغلغل في المنطقة والقادر على فرض إيقاعه على كل الجبهات وإبقاء الشرق الأوسط في وضعٍ غيرِ مستقر.
ومن هذا المنطلق اتّخذت الإدارة الأميركية قرارَها بأنه إما أن تكون إيران جزءاً من الشرعية الدولية في كل شيء أو لا تكون، فلا توجد أنصاف حلول على هذا المستوى لناحية أن ترتّب طهران وضعها مع المجتمع الدولي نووياً وتكون تحت سقف الشرعية الدولية، وأن تكون في الوقت نفسه في مواجهة مع الشرعية نفسها في كل ما يتصل بدورها، ولذلك ستتواصل الضغوط عليها توصّلاً لتسوية شاملة (باكيدج ديل) تشمل النووي ودورها، وتدرك طهران أنّ إمكانية الذهاب في المواجهة إلى النهاية مستحيلة، وبالتالي في اللحظة المناسبة ستجد نفسَها مضطرةً إلى تسوية من هذا النوع.
ـ ثانياً، الكلام الأميركي هو عن تعديل سلوك النظام الإيراني وتغييره وليس إسقاطه، وبالتالي الدور الإيراني سيبقى ضمن حدود سياسية أولاً، وتحت سقف التفاهم مع واشنطن ثانياً واستطراداً المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
ـ ثالثاً، لن يكون اليمن قاعدةً متقدّمة لإيران ومنصّةً خلفية لاستهداف الدول الخليجية، وبالتالي ستفقد نفوذَها في صنعاء التي ستبقى ضمن البيت الخليجي.
ـ رابعاً، نفوذُ إيران في العراق لن يكون مطلقاً بتحويلها دولة وصاية، إنما سيكون مشترَكاً مع النفوذ الأميركي والسعودي.
ـ خامساً، ستفقد طهران نفوذها في سوريا لمصلحة النفوذ الروسي في ظلّ قرار أميركي – إسرائيلي بإبعاد إيران من كل تماس حدودي مع تل أبيب، وما يحصل في جنوب لبنان اليوم يدخل ضمن هذا الإطار في ظلّ توجّهٍ دوليّ إلى وضع هذا الملف تحت «الفصل السابع» من ميثاق الامم المتحدة.
وأما على مستوى سوريا فستبقى في حالة لا حرب ولا سلم ريثما تنضج ظروف المرحلة الانتقالية، ولكنها ستكون خالية من النفوذ الإيراني، الأمر الذي سيحوِّل تركيزَ «حزب الله» إلى الحدود اللبنانية -السورية.
ـ سادساً، شكّلت الحرب السورية أكبرَ صعود في دور «حزب الله» الإقليمي الذي دخل في مرحلة العدّ العكسي لعودته إلى لبنان وإعادة تموضعه داخلياً بين حدَّي انتهاء وظيفته على الحدود الجنوبية، بمعزل عن مصير سلاحه، وحدّ ترتيب دوره الجديد على أساس المعطيات الدولية – الإقليمية الجديدة.
وفي كل هذا المشهد يُرجَّح أن تتحقق التحوّلات بسخونة لا ترتقي إلى مصاف الحرب، ولكن لا يجب استبعادُ الاحتمال الأخير الذي قد يُستخدم في محاولةٍ للهروب إلى الأمام أو لتسريع الحلول، فيما طهران ستلجأ إلى سياسة شراء الوقت بالرهان على سقوط ترامب، إلّا أنّ كل المعلومات تؤكد أنّ السياسة المعتمَدة أميركيا اليوم في الشرق الأوسط تحوّلت استراتيجيةً أميركية لن تتبدّل مع تبدّل الإدارات الأميركية.