القى مفتي صيدا واقضيتها الشيخ سليم انيس سوسان، من دار الإفتاء في صيدا رسالة ذكرى المولد النبوي الشريف 1440هـ، جاء فيها:
“الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، سيد الخلق والبشر، نبي المرحمة وامام الهدى، من رفع الله ذكره، وشرح صدره، ووضع عنه وزره، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وذريته، ومن تبعه وواله، واستن بسنته، واهتدى بهديه، واقتفى أثره الى يوم الدين.
وبعد، كلما اطل علينا شهر ربيع الأنور- تتجدد ذكرى مولد سيد الكائنات وخاتم الانبياء والمرسلين، نبي الرحمة الرسول الكريم، والسراج المنير، الذي جمع الله له الفضائل كلها، والمكارم جميعها، والمحامد بأكملها، تذكرنا بمولد المصطفى الصادق الأمين، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي اصطفاه الله تعالى من خلقه، إنه الرسول المصطفى والنبي المجتبى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه – سبحانه، وأعظمهم قياما بحقه، تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغا يعجز عن فهمه أكثر العالمين، بلغ رسالات ربه، وأدى الأمانة كاملة، ونصح للأمة جمعاء، يعلم جاهلها، ويرشد عالمها، ويصلح حالها، ويقوم بشأنها، لا يميل به واجب عن واجب، ولا يشغله جانب عن جانب صلى الله وسلم عليه تسليما كثيرا.
وتابع سوسان: “كان ميلاده ارهاصا بمولد دين الرحمة الشاملة والعامة والعالمية، رحمة لكل البشر، رحمة عامة ومجردة للعالمين جميعا، ليست رحمة للعرب دون العجم، أو للمسلمين دون غيرهم، أو للشرق دون الغرب.. بل هي رحمة للعالمين. فدين الإسلام الذي بعث به سيد البشر، هذا الدين رحمة في العبادة والتعامل والحكم، ورحمة في كل تفاصيل التشريع، فشريعة محمد صلى الله عليه وسلم طابعها الوسطية، والعدل، والأخلاق، والتوحيد، كما اتسمت بالسماحة والإنسانية والأخوة العالمية”.
واضاف: “في ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم نؤكد أن شريعته كلها رحمة، رحمة في مقاصدها وتطبيقاتها ووسائلها وغاياتها. هذه هي الرحمة التي بعث بها سيد البشر، وهذا هو ديننا، دين الرحمة والتراحم في السلم وفي الحرب، مع الأعداء والأصدقاء، مع الحيوان والطير، رحمة في العبادة والتعامل والحكم، ورحمة في كل تفاصيل التشريع، لأن ديننا دين إلهي يمتاز بالشمولية والوسطية واليسر والإعتدال، لذلك كانت شريعة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة غايتها ربانية، ورؤيتها انسانية، ونزعتها عالمية، ونظرتها شمولية، وفكرتها وسطية، وصبغتها أخلاقية ربطت الدنيا بالأخرة، والسماء بالأرض، مبناها وأساسها العدل والرحمة، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من شريعة محمد في شيء، لذلك تميزت الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم والملل بأنها أمة الوسطية والإعتدال، مصداقا لقول الله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (143) البقرة فهذا التعبير (جعلناكم) يفيد أن الله هو جاعل هذه الأمة، ومتخذها وصانعها، بل وضعها الله في مقام الأستاذية للبشرية كلها، والهداية للناس كافة، (أمة وسطا) في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح.
واردف سوسان: “في ذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم، نؤكد أن مبنى شريعتنا وأساسها العدل والرحمة فقد أمر الله بالعدل في القول والحكم، فقال تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (152)الأنعام، فالعدل مصدر يعني العدالة وهو الاعتدال والاستقامة، وهو الميل إلى الحق، ورب العزة أمر بالعدل في القول والحكم، فاذا قلتم قولا في حكم او شهادة او خير او نحو ذلك، فلا تميلوا عن العدل والصدق، دون مراعات لصلة القرابة او المصاهرة او الجنس أو اللون”.
فبالعدل والصدق تصلح شؤون الأمم والافراد، وبه تستقيم الأمور وتسير في مسارها الصحيح، وبه تطمئن النفوس إلى نيل حقوقها واستيفائها والوفاء بها قال تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا) (58). ديننا يطالبنا باقامة العدل بين الناس جميعا على اختلاف مللهم وطبقاتهم، لا بين المسلمين فحسب. لأن العدل هو أساس انتظام الحياة، وعلى ذلك فهو حق لكل إنسان من أي ملة او جنس او لون. هذا هو دستور الاسلام العظيم لا للتستر على التمييز العنصري، أو القبلي، أو المذهبي، ولا لتسخير الدين في خدمة الحكام وذوي النفوذ والسلطة.
واضاف: “يقول العلامة ابن قيم الجوزية: (إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان،فثم شرع الله ودينه). وقد أمر الله سبحانه وتعالى الحكام وكل من رعى رعية أن يحكم بينهم بالعدل من غير إفراط، ولا تفريط، ولا محاباة، لأن العدل أهم الدعائم التي تبنى عليه الأوطان، ويقوم عليها كل مجتمع صالح، فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والرحمة والإنصاف، هو مجتمع فاسد مصيره إلى الانحلال والزوال والعياذ بالله.
وتابع سوسان: “في ذكرى مولد الرسول الاعظم: نؤكد أن منطقتنا العربية والإسلامية تعيش حالة صعبة ودقيقة من الصراعات والتحولات، ونحن هنا في لبنان نلمس هذا الواقع الذي يترك أثره على البلاد والعباد، لذلك في ذكرى المولد نؤكد نحن في صيدا العروبة والمقاومة على الوقوف في وجه اي فتنة مذهبية او طائفية ونعتبر ان لغة التخاطب الهادئة والرصينة انما تعبر عن اخلاق اهل مدينتنا ودورهم التاريخي في حماية قضايا الأمة وفي طليعتها قضية فلسطين وتحرير المقدسات من رجس الاحتلال. ان تمسكنا باتفاق الطائف وبوحدتنا ومؤسساتنا وجيشنا الوطني حامي سياج الوطن وقوانا الشرعية، هي الضمان المطلوب دائما لحفظ الوطن واستقراره وحريته”.
اخيرا اكد “ان ولادة الرسول الاعظم كانت بشارة لخروج العرب من جاهليتهم وتناحر قبائلهم الى رحاب وحدة الاسلام وسعة الشريعة وسمو الاخلاق فلا نعود اليها، لذلك، نتمنى ان تكون هذه الذكرى مناسبة طيبة للوحدة والسمو واحترام الاخر بين اطياف المجتمع اللبناني والعربي والاسلامي.