لكن مع انهيار الإتّحاد السوفياتي بعد أربعة عقود ونيف دخل العالم في الأحادية الاميركية والتي بدا أنها غير قادرة على الاضّطلاع الكامل بهذا الدور. وبعد مئة عام من انتهاء الحرب العالمية الاولى إرتفعت أصوات كثيرة للبدء بإعادة صوغ ادوات النظام العالمي التي تنتمي الى الحقبة السابقة ولا تتلاءم مع التغيّرات الهائلة التي حصلت بدءاً من الامم المتحدة ونظام عملها، وصولاً الى إعادة تعديل الخريطة الجيو- سياسية للشرق الاوسط التي لا تزال قائمة على اتفاق سايكس – بيكو الشهير.
ولا بدّ من الاعتراف أنّ وصول دونالد ترامب الى الرئاسة الاميركية دفع بهذه العناوين الى بساط البحث؛ ولم تكن مصادفة أن يستبق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصول نظيره الاميركي الى باريس بمواقف حول أوروبا القوية وذات السيادة وضرورة الدفاع عن مصالحها في وجه الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة الاميركية. مضيفاً أنه يجب أن يكون لأوروبا جيش حقيقي ما يغني الإعتماد على الأميركيين فقط.
لم يأتِ كلامُ ماكرون من العدم. فالخلافاتُ تصاعدت كثيراً بين الاميركيين والاوروبيين منذ دخول ترامب عتبة البيت الابيض. ولم تقتصر تلك الخلافات على الشأن الاوروبي فقط، بل وصلت الى حدود النظرة الى طريقة التعاطي مع ازمات الشرق الاوسط.
ويكفي التمعّن في كلام وزير الاقتصاد والمال الفرنسي لـ”الفايننشل تايمز” عن وجود خطط فرنسية لإنشاء قناة مالية تسمح لأوروبا بالحفاظ على العلاقات التجارية مع إيران وتعزّز السياسة الاقتصادية لأوروبا. وهي نظرة تتّفق المانيا فيها مع فرنسا. هو نزاع سياسي ـ اقتصادي مع منطقة غنية تلتهب بالحروب والمخاطر وتُجاور القارة الاوروبية.
لكنّ لترامب أجندته المختلفة في الشرق الاوسط، وهو بات الآن في حاجة اكبر لانتصارات فيها بعد انتخابات خسر فيها سيطرة حزبه على مجلس النواب. وهو ما يعني أنه سيكون أقلّ تهوّراً في سياسته الخارجية طوال السنتين المقبلتين، الى درجة انّ البعض اعتبر انّ حملته الانتخابية للتجديد الرئاسي بدأت منذ الآن.
صحيح انّ الدستور الاميركي يمنح الرئيس صلاحيات واسعة في السياسة الخارجية، لكنّ مجلس النواب يقرّر طريقة إنفاق الأموال، الى درجة أنّ البعض توقّع شللاً في اجراءات التشريع بسبب الانقسام بين مجلسي الشيوخ والنواب. وفي هذا السياق توقع الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية (“سي. آي. إي”) جون برينان أن تواجه بلاده أزمة دستورية قريباً.
ترامب من جهته سارع الى الإعلان فور صدور النتائج انّ الوقت حان للتعاون مع الحزب الديموقراطي. وفي المقابل بدا انّ الحزب الديموقراطي رسم الخطوط الحمر لسياسته مع إدارة ترامب حيث تعهّدت زعيمة الغالبية الديموقراطية في مجلس النواب نانسي بيلوسي بأنها لن تتّجه الى الإطاحة بالرئيس، وأنها ستعمل للجم النواب المشاغبين. هذا التعهّد الذي مرّرته لترامب ستكون له أثمان في السياسة الداخلية، كما أنه لا يلغي اجندة السياسة الخارجية للحزب الديموقراطي.
وفي الورقة التي صدرت عن معهد “أبحاث الأمن القومي” الاسرائيلي في جامعة تل ابيب حول دلالات نتائج الانتخابات النصفية الاميركية، التي أعدّها السفير الاميركي السابق في إسرائيل دان شابيرو بالتعاون مع مسؤول سابق في شعبة الاستخبارات العسكرية الداد شفيط، صدرت توصية بأنّ الحوار الاستراتيجي بين الدولتين الاميركية والاسرائيلية بات ينطوي على اهمية اكبر بسبب الانقسامات الحاصلة والتخوّف من تأثير مواجهة بين الحزبين حول سياسة ترامب.
ذلك انّ الديموقراطيين سيسعون الى تعديل السياسة الاميركية في اليمن وتركيا وسوريا ومصر، وذلك من خلال ضغوطهم عبر المجلس النيابي.
فالديموقراطيون يريدون وقفَ الحرب في اليمن وقد لا يكون مفاجئاً وضعهم قيود على انظمة التسليح والتدريب للسعوديين ووقف صفقات اسلحة عقدت مع تركيا وشملت بيع مئة طائرة من طراز F-35، كما أنهم يريدون دعماً غير مشروط للأكراد في سوريا والعراق. ولذلك سيحتاج السعوديون للتعاون اكثر مع ادارة ترامب للتخفيف من الضغط الداخلي عليه.
لكنّ المؤشر الاول هو بإنهاء حرب اليمن وأخذ الجميع الى طاولة المفاوضات والتي تعني وفق موازين القوى اعترافاً بسلطة الحوثيين على المناطق التي يسيطرون عليها وبالتالي الإقرار بالنفوذ الايراني على البلد المجاور للسعودية، لا بل المتداخل معها. ومن هنا المساهمة الاميركية لانتزاع الحديدة ومرفئها من يد الحوثيين، لكي لا يتمّ تكريس نفوذهم على هذا المنفذ المائي الفائق الأهمية، اضافة الى تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية.
وفي الوقت نفسه تستعدّ إدارة ترامب لطرح مشروعه للسلام الدائم بين الاسرائيليين والفلسطينيين ما بين شهرَي كانون الاول وكانون الثاني المقبلين. لكنّ ترامب يبدو حذراً في مساره الاسرائيلي.
فحسب استطلاعات فإنّ 76% من اليهود الاميركيين صوّتوا لمصلحة الديموقراطيين في مقابل 19 % لمصلحة الجمهوريين. كما أنّ اليهود الاميركيين يُبدون قلقاً من سياسة ترامب العنصرية، خصوصاً بعد اعتداء بيتسبرغ الاخير.
كما أنّ قنصل اسرائيل في نيويورك داني دايان اوصى حكومة بلاده بتقوية العلاقات مع النواب الديموقراطيين الجدد.
وفيما لم يصدر عن الحكومة الإسرائيلية وخصوصاً رئيسها بنيامين نتنياهو أيّ تعليق على نتائج الانتخابات النصفية الاميركية، راجت اخبار عن نيّة نتنياهو حلّ الحكومة خلال الاشهر المقبلة والدعوة الى انتخابات مبكرة، الامر الذي في حال حصوله سيعني تأجيل البيت الابيض اعلان صفقة القرن، ما يعني تبخّر طموح ترامب بتحقيق انجاز تاريخي يسيتطيع استثماره في معركة التجديد له، على رغم اعتقاد فريق ترامب بأنّ الظروف الممتازة تسمح بإمرار الاتفاق. فالتطبيع قائم بين اسرائيل ودول الخليج التي تعهّدت بإلزام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالموافقة على الاتفاق.
لكن السؤال: هل يقبل نتنياهو فعلاً بدولة فلسطينية ولو كانت صورية أو حتى لو كانت وهما؟
عام 2015 وخلال الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة تعهّد نتنياهو لليمين المتطرف بأنه لن تكون هناك أبداً دولة فلسطينية خلال حكمه. وطوال فترة رئاسته للحكومة لم يدخل في أيّ مفاوضات جدّية مع السلطة الفلسطينية.
ولفت في هذا المجال ما صدر عن رئيس جهاز “الشاباك” من أنّ الوضع في الضفة الغربية معقّدٌ جداً وليس هادئاً كما يبدو ظاهرياً. واتهم حركة “حماس” بأنها تبذل جهوداً كبيرة من أجل تنفيذ هجمات في الضفة الغربية بتوجيهات صادرة من غزة وتركيا ولبنان. فهل هذا يؤشر الى جولة عنف جديدة تخدم “حشرة” نتنياهو؟
وحتى في سوريا فإنّ روسيا ابدت للاميركيين تمسّكها بالوجود العسكري الايراني كونه متمّماً للمصلحة الروسية. ذلك انّ القوات الايرانية والتنظيمات الموالية لها تتولّى حماية ظهر القوات والقواعد الروسية. وفي المقابل فإنّ موسكو تساعد على حماية ظهر القوات الايرانية من خلال مراقبة اعداء ايران في البلدان المجاورة لسوريا. واضح ان الكلام الروسي يشمل الساحة اللبنانية.
ومن خلال هذا الاطار الواسع يجب مقاربة التطورات اللبنانية بكل تعقيداتها. وقد تناول اللبنانيون الجزء الداخلي أو الحكومي من خطاب الامين العام حزب الله السيد حسن نصرالله وقد يكون ذلك مفهوماً ولكنه غيرُ كافٍ ابداً. فالخطاب يشكل رؤية متسلسلة ومترابطة من ضمن سياق واحد، فهو لم يكن قلقاً من العقوبات الاميركية، في وقت اعلن الرئيس الايراني حسن روحاني ايضاً عدم تأثير العقوبات على ايران. ويُقال في هذا المجال إنّ التيار المتشدّد في ايران اتّخذ قراره برفض الجلوس مجدداً الى طاولة المفاوضات مع الاميركيين، ربما في اطار قراءته لواقع المنطقة وواقع الاميركيين.
كذلك فإنّ السيد نصرالله تحدث عن “انتصار” للحوثيين في اليمن، وهو هاجم الدول الخليجية الراكضة للتطبيع مع اسرائيل، ووجّه تهديداً واضحاً ومباشراً للاسرائيليين بأنّ “حزب الله” سيردّ حتماً على أوّل ضربة اسرائيلية على لبنان. ما يعني انّ “حزب الله” لا يخشى حرباً جديدة.
وهذه الصورة تعني، اضافة الى ازمة الخاشقجي في السعودية، انّ المعادلة الإقليمية اختلفت، ما يعني وجوب أن تتجانس معها المعادلة الداخلية اللبنانية.
من هذا المنطلق ربما تعمّد الأمين العام لـ”حزب الله” “تظهير” غضبه، خصوصاً من الضغط من خلال استعادة مرحلة النزاع السنّي- الشيعي وهو خُيّر بين توزير أحد نواب سنّة 8 أذار، أو العودة الى نقطة الصفر واعتماد معايير جديدة. وهو بذلك يقول، إما كسر احتكار تيار “المستقبل” للتمثيل السنّي أو الدخول في مرحلة نزاع جديدة لا احد يضمن الى اين ستصل، ملمّحاً ربما الى تعديل “اتفاق الطائف”.
في المبدأ سيردّ الرئيس سعد الحريري رافضاً طرح السيد نصرالله. وسيندفع رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع في طرحه والقاضي بإعادة تفعيل مجلس الوزراء المستقيل من خلال انعقاد جلسات الضرورة.
لكنّ رئيس الجمهورية سيعمل لتسوية من خلاله في ظلّ تشجيع دولي على ضرورة ولادة الحكومة أيّاً كان الثمن، ذلك انّ العواصم الغربية تدرك أنّ الاندفاع في النزاع يعني التوغّل في الفراغ والذي ينتهي عادة بمؤتمر تأسيسي