لبنان استنفر سياسياً، وسعى الى حشد العالم معه في مواجهة ما تبيّته اسرائيل، والجولة التي نظّمها وزير الخارجية جبران باسيل للبعثات الديبلوماسية المعتمدة في لبنان الى ملعب العهد هدفت الى كشف الادعاءات الاسرائيلية الكاذبة حول وجود صواريخ، أو منشأة لتطوير الصواريخ بالقرب من مطار بيروت. وتم تثمين هذه الخطوة في الداخل واعتبرت في محلها.
الموقف الدولي لم يكن واحداً من «صواريخ المطار»، وهو بالتأكيد تطوّر مقلق للبنان، بعض البعثات الديبلوماسية كانت متفهمة للموقف اللبناني ومتضامنة معه، وبعثات أخرى ظلّت مشككة على رغم الجولة الميدانية، فيما بعثات أخرى كانت رافضة بالمطلق لهذه الخطوة اللبنانية، وعبّرت عن تفهّمها للموقف الاسرائيلي، ورفضها من حيث المبدأ والشكل والمضمون لهذه الجولة من أساسها ومارست ضغوطاً كبيرة لإفشالها وإفراغها من مضمونها، وفي الاساس لمنع القيام بها، وقد تلقّى لبنان الرسمي إشارات اعتراضية مباشرة وكلاماً أميركياً صريحاً بهذا المعنى ينطوي على انتقاد قاس لهذه الخطوة التي اعتبرت «فاولاً» كبيراً يرتكبه لبنان.
إسرائيل، قابلت الموقف الرسمي بانزعاج واضح عبّرت عنه في سلسلة التغريدات المتتالية لرئيس الحكومة الاسرائيلية وللمتحدث باسم الجيش الاسرائيلي. والواضح، كما أشار الاعلام الاسرائيلي، انها كانت تنتظر رد فعل «حزب الله»، وخطأ يرتكبه الحزب يؤكد الفيلم الذي عرضه نتنياهو في الأمم المتحدة حول الصواريخ ومنشأة التطوير. لكنّ الحزب لم يَنجرّ الى الملعب الاسرائيلي، بل صمتَ إلى حدّ بَدا فيه غير مكترث وغير عابىء بما روّج له نتنياهو، ولم يقدم للإسرائيلي ما يطمئنه حيال وجود او عدم وجود منشأة تطوير صواريخ تحت ملعب العهد قرب المطار.
غالبية دول العالم، وكما أكد ديبلوماسيون لمراجع رسمية لبنانية، تسير في الاتجاه المعاكس للوجهة الإسرائيلية نحو الحرب، الّا انها في الوقت نفسه تسير على خط القلق الشديد، خصوصاً انّ اسرائيل تبدو انها تتصرف وفق ضوء أخضر اميركي يغطّي قيامها بأي مبادرة حربية تقوم بها في المنطقة، وحتى ضد «حزب الله» في لبنان.
يقول ديبلوماسيون غربيون انّ كلام نتنياهو عن لبنان يبدو أكثر جدّية مما مضى، ليس فقط لما تضمّنه من تهديدات، تدرك إسرائيل أنّ تنفيذها لن يكون سهلاً، وإنما في أبعاده الاستراتيجية، وما يعكسه من جهود إسرائيلية لفرض قواعد اشتباك جديدة بدءاً من الاجواء السورية وصولاً الى لبنان. وخصوصاً بعد وصول منظومة «اس 300» الى سوريا، وربط الدفاعات الجوية السورية بمنظومة الرصد والتشويش الروسية. بما يعني انّ الاجواء السورية صارت مقفلة بالكامل أمام المقاتلات الإسرائيلية. وربما أشار العقل الاسرائيلي الى إمكان النفاذ الى تلك الاجواء من لبنان.
وبحسب هؤلاء الديبلوماسيين، فإنّ الدوائر السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل، وبحسب ما سرّب للإعلام، تُبدي خشية كبيرة من أن تؤدي الخطوة الروسية هذه إلى إفساح المجال لإيران و»حزب الله» لتسريع عمليات نقل الأسلحة إلى لبنان، وهنا يكمن العنصر الاساس في التهديد الاسرائيلي.
في اعتقاد هؤلاء الديبلوماسيين انّ اسرائيل قلقة ومحرجة في آن معاً، قلقة من الـ»اس 300»، الى حد انّها لوّحت بضربه بطائرات الـ»اف 35» (الشبح)، ومُحرجة لأنها غير قادرة على القيام بخطوة من هذا النوع، لأنّ هذا معناه مواجهة مباشرة مع الروس، ومواجهة كهذه، وكما لها قرار ضخم بالدخول فيها، ستكون لها أكلافها الضخمة خصوصاً على اسرائيل. إنما الامور لا يبدو انها ذاهبة في هذا الاتجاه، وينبغي في هذا المجال رصد اللقاء المقبل بين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
واذا كانت قرقعة التهديدات قد تراجعت في الفترة الاخيرة، الّا انّ ذلك لا يعني انها سحبت عن طاولة المتابعة الداخلية، ذلك انّ التعاطي اللبناني الرسمي معها يتمّ بجدية بالغة، خصوصاً انّ مدى هذه التهديدات لا يقف عند حدود لبنان بل يصل الى سوريا وحتى إيران ضمناً.
ومن وصف التقييم الداخلي للتهديدات الاسرائيلية الى استعراض سلسلة سيناريوهات حول ما يمكن ان تقوم به إسرائيل:
– الأول، أن تعمد إسرائيل إلى تنفيذ غارات جديدة على سوريا، في تحدٍّ فظ للروس، وهو سيناريو أقل ترجيحاً، لأنّ التداعيات في هذه الحال ستكون خطيرة، فإذا ما قرّر السوريون – بمبادرة خاصة أو بقرار روسي – تفعيل منظومة «أس 300»، فسيشكل ذلك النهاية الفعلية لمرحلة استباحة الأجواء السورية.
– الثاني، أن تحاول إسرائيل التوصل إلى تفاهمات مع الجانب الروسي بشأن التنسيق المسبق لضربات تستهدف «شحنات سلاح» مُرسلة من إيران إلى «حزب الله». وهو أيضاً سيناريو ضعيف الترجيح، لأنّ الروس لن يكونوا مستعدين للقبول بما من شأنه تقويض الثقة في علاقتهم مع حلفائهم، ولا المخاطرة بسمعة «أس 300»، التي تعد واحدة من درر الصناعات الدفاعية الروسية.
– الثالث، أن تعمد إسرائيل إلى تنفيذ ضربات على سوريا انطلاقاً من الأجواء اللبنانية، وهو أمر ينطوي على مقامرة كبرى، خصوصاً في ظل التلميحات الروسية بأنّ مجال منظومة «أس 300» يمكن أن يمتد إلى أجواء لبنان (وهو ما ألمح إليه على سبيل المثال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، حين تحدث عن مدى تلك الصواريخ المقدّر بنحو 275 كيلومتراً).
– الرابع، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً، والأكثر تفسيراً للتهديدات الاسرائيلية للبنان، ويتمثّل في اختبار معادلة «أس 300» في الميدان اللبناني باعتباره خاصرة رخوة، خصوصاً إذا ما تمكّنت إسرائيل من حشد دعم دولي لغارات موضعية تستهدف «شحنات سلاح موجهة إلى إرهابيين»، على حد قولها، مستخدمة شعار «الدفاع عن النفس».
هذا السيناريو، برغم انه الأكثر ترجيحاً، الا انه ليس سهلاً، لأمرين:
الامر الأول، لأنّ توجيه ضربة إسرائيلية للبنان يوجِب قبل كل شيء ان تكون اسرائيل قد أنجزت تحصين جبهتها الداخلية، وترميم قدرة ردعها الذي أكدت سلسلة المناورات العسكرية المتتالية التي أجرتها في السنوات الاخيرة انّ قدرة الردع هذه ليست بالقوة اللازمة التي تمكّنها من تحقيق انتصار سريع، وساحق ضد «حزب الله».
الامر الثاني، لأنّ اسرائيل تدرك جيّداً أن توجيه ضربة للبنان ستعتبر انتهاكاً لكل الخطوط الحمراء التي رسمتها حرب تموز العام 2006، وهي ستخاطر بذلك في دفع الأمور باتجاه حرب شاملة، خصوصاً إذا ما اختار «حزب الله» تطبيق معادلة الردع الاستراتيجي. وبالتأكيد انّ حرباً كهذه سترسم خريطة جديدة للصراع… وللمنطقة.