سام منسى:
تراجع رصد تعقيدات أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية بفعل الغبار الناتج من زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من على منبر الأمم المتحدة، أن هناك ثلاثة مواقع لـ«حزب الله» قرب مطار بيروت تنتج وتخزن فيها صواريخ دقيقة متوسطة وطويلة المدى تشكل تهديداً لعمق إسرائيل الاستراتيجي.
لا جديد في كلام نتنياهو سوى أنه كشف عناوين أماكن إنتاج الصواريخ وتخزينها؛ إذ سبق للسيد حسن نصر الله نفسه تأكيد امتلاك حزبه لها في خطاب ألقاه يوم 20 سبتمبر (أيلول) الفائت بقوله دون لبس «باتت المقاومة تملك من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة ومن الإمكانات التسليحية ما إذا فرضت إسرائيل على لبنان حرباً، ستواجه مصيراً وواقعاً لم تتوقعه في يوم من الأيام».
مع ذلك، تتالت المواقف المستنكرة لكلام نتنياهو، والمدهش أن أول الغيث هو وصفها تحديداً من «حزب الله» بأنها أكاذيب وأوهام ليس إلا. وما كان من وزير الخارجية جبران باسيل إلا أن نظم جولة استعراضية لعشرات السفراء والدبلوماسيين على المواقع المذكورة، لإظهار «زيف الادعاءات الإسرائيلية». وقال مصرحاً إن لبنان «يرفع صوته اليوم متوجهاً إلى كل دول العالم، لدحض الادعاءات الإسرائيلية». أما كتلة المستقبل، بعد اجتماع برئاسة الرئيس سعد الحريري، فأعربت عن رفضها «بأشد العبارات» لتهديدات بنيامين نتنياهو.
يأتي هذا الحدث وسط أزمة حكومية مستعصية في بيروت وفي ظل اقتصاد مهدد بالانهيار، وبعد انتهاء مداولات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي رافقها تسمية أحد شوارع بلدية الغبيري في ضاحية بيروت الجنوبية، معقل «حزب الله»، باسم مصطفى بدر الدين، الرأس المتهم بتنفيذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
بمعزل عن صدق أو كذب ما أورده نتنياهو ونوايا إسرائيل الخبيثة تجاه لبنان والمنطقة وتاريخ ممارساتها الدموية الوحشية، ما يصدم حقاً هو رد الفعل اللبناني الرسمي وغير الرسمي، الذي ندرك بفعل التجربة أنه لن يلبث أن يخبو بعد زوال الغبار الناتج من كلام نتنياهو. هو صادم لأنه حجّم المسألة ونقل الخلاف من أصله، وهو امتلاك «حزب الله» سلاحاً خارج الدولة، إلى خلاف فرعي حول مواقع إنتاج هذا السلاح وتخزينه.
وهكذا، وبسحر ساحر، انزلق الجميع إلى موضوع مكان التخزين بدل موضوع شرعية ما هو مخزن، في سلوك اعتاده اللبنانيون منذ بدايات نشاط الحزب ومن ثم اشتداد عوده: اعتياد لبنان الرسمي والشعبي على التعايش مع الخطأ ومع الظرفي والاستثنائي ومع ما هو غير شرعي وغير قانوني.
أقل ما يقال إن هذا السلوك يعري الحقيقة المفجعة في لبنان. فاللبنانيون، كما حالهم دوماً، يلجأون إلى لفلفة المشكلات وتدوير الزوايا تحت شعارات مختلفة تبدأ بالحفاظ على الاستقرار، ولا تنتهي بالحفاظ على السلم الأهلي. وهو سلوك لا يقوض مفهوم الدولة فحسب، بل يشهر إفلاسها؛ لأنه إثبات جديد أن جميع المؤسسات الدستورية تخلت عن صلاحياتها السيادية في الأمن وحصرية امتلاك السلاح والسياسة الخارجية لصالح «حزب الله»، وباتت مجرد سلطات محلية تعنى بالشقين الإداري والاجتماعي – الاقتصادي من شؤون البلاد.
وهذا ينسحب على حال القضاء الذي يحاكم فئة من المواطنين ويتغاضى عن محاكمة فئة أخرى. وهو إثبات جديد لحال الأجهزة والقوى الأمنية التي تلاحق متهمين فعليين بجرائم جنائية ومدنية أم مجرمين افتراضيين لتهديدهم «أمن الدولة»، وتستنكف عن ملاحقة آخرين متهمين دولياً بجرائم سياسية. وهو إثبات جديد عن الخواء السياسي في البلاد مع تحول القادة والزعماء السياسيين والدينيين إلى شهود زور، يدورون الزوايا ويتعاملون مع الأوضاع إما وفق ما تقتضيه مصالحهم الآنية والشخصية، إما خوفاً أو محاباة لقوى السلطة وهي في لبنان واحدة: «حزب الله».
كل ذلك يتم تحت شعار حماية السلم الأهلي والاستقرار، وكلنا يدرك أنه إذا كان صوت أزيز مدافع المعارك قد سكت عام 1990، فصوت الحرب الأهلية في لبنان ما زال مدوياً ويصل آذان العالم أجمع عبر الانقسامات الحادة في المجتمع اللبناني والاصطفافات السياسية غير المتجانسة. والأهم، بل الأدهى، هو عبر تحويل وجه لبنان ووجهته من عضو مؤسس للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى مجرد جرم صغير يدور في مدار النظام الإيراني. والأشد إيلاماً، تحوّل لبنان من وطن صغير مستقل يتمتع بهامش واسع من الحرية والسيادة إلى مقاطعة تابعة لراعٍ أجنبي، ومن بلد إلى ما يشبه البلدية. سقط الكيان رمزياً أو يكاد، واللبنانيون يتحاشون معالجة القضايا المصيرية ويتلهون بجنس ملائكة البنى التحتية والرقص على حبال الإصلاح!
الحفاظ على السلم الأهلي ضرورة حيوية، لكن ليس عندما يكون ثمنه الاستسلام. قد يسأل سائل هل المطلوب هو استدعاء الحرب الأهلية؟ بالطبع لا! لكن الجواب، أقله عندنا، ليس أبيض أو أسود: إما حرب أهلية، أو استسلام للأمر الواقع. وهو جواب يختلف حكماً عن ذاك الذي أعطاه «حزب الله» وتجسد بتحذير أمينه العام: «لا تلعبوا بالنار»، أي وراءكم الاستسلام والخنوع وأمامكم الحرب الأهلية.
التهويل الإسرائيلي ليس بالجديد، إنما هو محفّز إضافي للتساؤل حول جدية الحكم والسياسيين بمواجهة أساس الأزمة في لبنان بعامة، ومخاطر شن إسرائيل حرباً جديدة ضد لبنان بخاصة.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تحذير وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إسرائيل وأيضاً من الأمم المتحدة من مهاجمة أهداف في لبنان؛ ما قد يشي بتمدد المظلة الروسية إلى لبنان، خصوصاً في ظل ما يمكن وصفه بهرب نتنياهو إلى الأمام وإطلاقه دخاناً بتهديده لبنان ليخفي مأزق تقييد حرية حركة مقاتلاته الجوية في سوريا.
مهما يكن، كل السيناريوهات لا تبرر هذه الرداءة بالأداء اللبناني كما في التكرار الممل لمقولة إن سلاح «حزب الله» هو شأن إقليمي ولا طاقة للبنانيين على مقاربته، فيما يتبين يوماً تلو آخر، ولا سيما بعد توالي العقوبات على «حزب الله» والإجراءات المطلوب من لبنان اتخاذها، أن أحداً لا يتعامل مع لبنان على هذا الأساس، وأن الدول التي تعمل على تطويق إيران وأدواتها لا بد أن تطال لبنان. من السذاجة إلى حد الغباء، تجاهل حجم «حزب الله» وإيران ودورهما وممارساتهما في الداخل والخارج وكأنهما على كوكب آخر.
هل الحكومة العتيدة التي بشرنا الرئيس سعد الحريري بقرب ولادتها قادرة على مواجهة الواقع الصعب وتجنيب لبنان خطرين محدقين؛ خطر الحرب الإسرائيلية وخطر الانهيار الاقتصادي، أو ربما الاثنين معاً؟ يصعب تصديق ذلك.