قرّر الرئيس الاميركي دونالد ترامب، في أيار الماضي، الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، رغم ضغوطات شركائه الستة الموقّعين على الاتفاق (إنكلترا، فرنسا، ألمانيا ، روسيا والصين، والاتحاد الأوروبي)، بخاصة فرنسا وألمانيا، ورغم شهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرّية، المنظمة الدولية المعنية بمراقبة تطبيق بنود الاتفاق من قبل إيران، بأنّ طهران لم تخالف أيّاً مِن بنوده.
إعتراض إدارة ترامب على الاتفاق، إضافة إلى أنّه وُقّع من الرئيس باراك أوباما، الذي يريد ترامب إلغاء كلّ إنجازاته، يتلخّص بنقاط ثلاث:
1- الاتفاق ينتهي سنة 2030، تكون إيران بعدها في حلٍّ من تعهداتها بألّا تسعى لامتلاك سلاح نووي، بينما يريد ترامب ألّا يكون للاتفاق نهاية، بمعنى أنّ إيران لن تتمكّن، حتى في المستقبل البعيد، من الحصول على هذا السلاح.
2- الاتفاق لا يشمل البرنامج الصاروخي البالستي الإيراني الذي يهدّد دول جوار إيران، والبترول العربي، وبالأخص إسرائيل، حليف أميركا المدلل، وقد يهدّد مستقبلاً أميركا ذاتَها.
3- الاتفاق لا يلحظ أيّ بندٍ يتعلق بوقفِ تدخّل إيران في شؤون جيرانها، إمّا مباشرة أو من خلال الميليشيات المتحالفة معها، بخاصة «الحوثيين» في اليمن، و«الحشد الشعبي» في العراق وطبعاً «حزب الله».
النقطة الأخيرة مهمّة جداً لأنها تتضمّن تغيّراً جذرياً وكاملاً في سياسة أوباما الشرق أوسطية. كانت عقيدة أوباما تقول بأنّ العرب، بخاصة بلاد الخليج، حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة، لا يمكن الاعتماد عليهم. لذا فمِن الضروري، لتأمين الاستقرار في المنطقة، العودة إلى أيام الشاه والتحالف الأميركي ـ الإيراني. أحد الأهداف الرئيسية للاتفاق النووي، بالنسبة لأوباما، كان ترجيح كفّة المعتدلين في إيران وهي على أبواب انتخابات رئاسية، للوصول إلى انفتاح إيراني على الغرب، وبالتالي إلى عودة التحالف الأميركي ـ الإيراني كما كان في أيام الشاه. نجح المعتدلون في الانتخابات، وأوصَلوا الرئيس روحاني إلى الحكم، كما تنبّأ أوباما، ولكنّ أميركا ظلّت الشيطان الأكبر بالنسبة لنظام إيران، ولم يحصل الانفتاح المنتظر عليها.
إدارة ترامب بالمقابل تعتقد أنّ إيران لا تستطيع أن تكون قسماً من الحلّ لمشاكل الشرق الأوسط، وتعتبر أنّ شرق أوسط، ذات غالبية سنّية، تهيمن عليه إيران، لن يكون مستقراً، بل سيكون ساحةً للصراع الشيعي ـ السنّي. لذلك تسعى هذه الإدارة الى تأسيس تحالفٍ سنّي بقيادة السعودية، بالتعاون مع دول الخليج، وبمساندة مِصر، ولربّما مستقبلا تركيا أيضاً، يكون البديل عن نفوذ إيران السياسي والعسكري في المنطقة.
ولذا عادت أميركا بقيادة ترامب إلى تحالفاتها مع الدول العربية وبدأت تسعى فعلاً إلى تحييد إيران. كثَّفت في اليمن مساعدتها اللوجستية للتحالف السعودي ـ الإماراتي ضد «الحوثيين» حلفاء إيران هناك. وفي سوريا تركت المجال للإسرائيليين، بحماية أميركية، لضرب مواقع إيران والمواقع التابعة لـ«حزب الله».
ما سهّلَ المهمة الإسرائيلية ـ الأميركية في سوريا هو الخلاف المستجد بين روسيا وإيران حول مستقبل البلاد. فإيران تريد أن تحافظ على الوجود الرادع لحليفها «حزب الله» في جنوب لبنان والإبقاء على خطوط الإمداد له التي تمرّ حتماً في سوريا.
روسيا بالمقابل هي، على أقلّ تقدير، متعاطفة مع إسرائيل، خاصة وأنّ ما يقارب ربعَ الإسرائيليين هم من أصول روسيّة، كما أنّ لروسيا مصالح مشتركة اقتصادية وعسكرية. الأهم هو أنّ روسيا دخلت الحرب السورية بهدف واحد وهو أن يكون لها وجود على ضفاف مياه البحر الأبيض المتوسط الدافئة.
في أيام الاتحاد السوفياتي، كان للاتحاد حلفاء ومواطئ قدَم في عدة بلدان حول المتوسط (الجزائر، ليبيا، مصر وسوريا) ولكن عندما وصل بوتين إلى الحكم سنة 1999 أي بعد نحو ثماني سنوات من انهيار الاتحاد، ودخول روسيا في أزمة اقتصادية خانقة، وخسارة مكانتِها كدولة عظمى، لم يكن لروسيا يومها سوى رصيفٍ بحري في طرطوس مهمتُه الأساسية إصلاح البواخر الحربية الروسية.
إعتبَر بوتين، الذي أراد إعادةَ عظمةِ روسيا، أنّ موطئ القدمِ في سوريا هو ذات أهمية كبيرة، ولكنّه أرادها حرباً قصيرة لأنّ اقتصاد بلاده لا يسمح بحرب استنزاف طويلة. ما زال يتذكّر ما حصل للجيش السوفياتي في أفغانستان أواخر الثمانينات، عندما كان الاقتصاد الروسي يومها في ركود مشابه لِما هو عليه الآن، وبدأت أميركا باستنزافه بإعطاء المتمرّدين أسلحة نوعية. انسحبَت يومها القوات السوفياتية مهزومة، ما ساهمَ في إنهاء النظام الشيوعي في روسيا وتفكيك الإمبراطورية السوفياتية بعد نحو سنتين من هذا الانسحاب.
روسيا نالت اليوم ما تبتغيه في سوريا، بعدما أسّست فيها أكبرَ قواعد عسكرية لها خارج حدودها، وأنجَزت اتفاقاً مع الحكومة السورية يُمكّنها فعلياً من البقاء في سوريا لمدة غير محدودة. موطئ القدم هذا يَسمح لها بالعودة تدريجياً الى نفوذها القديم في المنطقة، وبدأت بالفعل تلعب دوراً في الصراع الليبي. روسيا تريد اليوم تهدئة الأمور في سوريا والوصول إلى حلّ يَسمح لها بتثبيت إنجازاتها.
هذا التثبيت يتطلّب في النهاية موافقةً أميركية، البلد الوحيد الذي يستطيع أن يعطي روسيا وعداً فعّالاً في هذا الشأن. أحد شروط أميركا هو تحييد إيران من المعادلة، ولذا نجد روسيا تغضّ النظر عن تعدّيات إسرائيل في سوريا على مواقع إيران و»حزب الله».
سوريا اليوم مقسّمة. القسم الأكبر ممّا يسمّونه «سوريا المفيدة»– أي غرب سوريا ــ تسيطر عليه روسيا وإيران والنظام، وهناك خلافات بينها. شمال هذه المنطقة تسيطر عليه تركيا، بمساندة «الجيش الحر» المعارض، مع بعض الثغرات الأميركية فيه التي يتمّ التوافق عليها بين الدولتين كما يحصل في منبج.
في الجنوب اقتطع «الجيش الحر» منطقة له بمساندة أردنية أميركية، هي اليوم ساحة صراع مسلّح. شرق الفرات وآبار البترول فيه، منطقة تسيطر عليها أميركا بالتعاون مع الأكراد. أضِف إلى كلّ ذلك جزراً هنا وهناك ما زالت «داعش» موجودة فيها وتتوسّع منها أحياناً.
في هذه الأثناء، أميركا وإسرائيل تعملان على تحييد إيران كلياً من سوريا، وعلى أميركا إعطاء تعهّدات لروسيا لتثبيت وجودها مقابل تعهّدات مماثلة من الجهة الأخرى، ما يتطلّب مفاوضات شاقة لم تبدأ بعد بشكل فعّال. في هذه الحالة المعقّدة هل مَن يستطيع أن يقول متى وكيف سيكون الحلّ النهائي في الأمد الطويل؟
في الأمد القصير، مِن الواضح أنّ التوتر في المنطقة سيبقى على حاله في المستقبل المنظور، ولكن ما سيميّز المرحلة القادمة سيكون الضغط الأميركي المتزايد على إيران والميليشيات التابعة لها، في إطار الحملة الأميركية لتحجيم دور إيران في المنطقة.
هذا الضغط سيُترجَم من خلال رفعٍ متزايد للعقوبات إلى حدّ غير مسبوق، ولربّما أيضاً من خلال أعمال عسكرية محدودة كهجمات إسرائيلية هنا وهناك في سوريا لا ترقى إلى حرب إقليمية.
إيران وأوروبا تحاولان إنقاذ الاتفاق النووي ولكن هذا ليس بالسهل بغياب أميركا عنه، بخاصة إذا كثّفت عقوباتها على المنظومة الإيرانية.
وماذا عن لبنان؟
لبنان يعيش منذ مدة تحت غطاء أمني وسياسي يرعاه المجتمع الدولي، أميركا والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى. كلّ جهةٍ لها أسبابُها في عدم الرغبة بأنّ يفقد استقراره. وليس في الأفق ما يدلّ على أنّ هذه الحالة ستتغيّر قريباً.
فأميركا تحاول جاهدةً فرض عقوباتٍ على «حزب الله» دون أن تؤثر بنحو كبير على اقتصاد لبنان أو على نظامه المصرفي، وذلك من خلال استهداف أشخاص ومؤسسات خارج لبنان يَعتقد الأميركيون أنّها تموّل الحزب. لهذا فمِن المنتظر أن تأتي العقوبات القادمة، رغم شدّتِها، في الإطار نفسِه.
إيران من جهتها بدأت تشعر بضيقة اقتصادية تتمثّل بالتآكل السريع لعملتها، وبتحويل رؤوس أموال منها إلى الخارج، وبانسحاب تدريجي لشركات أوروبية كبيرة منها، رافقَتها أخيراً تظاهرات في أنحاء مختلفة من البلاد أقلقت قيادات إيران. وأميركا أعلنَت أنّها ستفرض عقوباتٍ الخريفَ القادم على الدول والمؤسسات التي تشتري بترول إيران. لذلك فليس من المنتظر أن يكون ردّ إيران على العقوبات حرباً مفتوحة، تجرّ لبنان إليها، رغم التصريحات النارية لبعض قياداتها.
يبقى إسرائيل التي ترغب دوماً بخراب لبنان. لكنّ دخولها في حرب إقليمية تشمل لبنان، ليس فقط مكلِف جداً لها، كما للبنان، بل يتطلّب غطاءً أميركياً مسبَقاً، وهذا غير متوفّر حالياً. وعلى كلّ حال، من الواضح أنّ القوى الكبرى في المنطقة، أي أميركا وروسيا، لن تسمح بحربٍ إقليمية مفتوحة قد تتطوّر إلى مواجهة بينهما لا يريدها أيّ مِن الطرفين.
(الجمهورية)