في المعلومات المتوافرة عن مناخات التأليف أنّ الحريري وصَل إلى مرحلة شديدة الإحراج، نتيجة الضغوط الخارجية التي تمارَس عليه بهدف منعِ تفرّدِ «حزب الله» وحلفائه بالقرار في الحكومة العتيدة.
فأهمّية هذه الحكومة أنّها ستكون حكومة السنوات الأربع المتبقّية من عهد الرئيس ميشال عون، ولا استحقاقَ دستورياً سيتكفّل بتغييرها. لذلك، تريد القوى العربية والدولية المناهِضة لـ»حزب الله» إبقاءَ الحكومة خارج سيطرته الكاملة، خصوصاً بعدما فشلت هذه القوى في منعِ سيطرته على المجلس في الانتخابات الأخيرة.
وهذه الحكومة هي الأداة العملانية لعهد عون الذي سيشهد أحداثاً واستحقاقات داخلية وإقليمية تغيِّر الشرقَ الأوسط بكامله. ومن البديهي أن يحاول كلّ محور إقليمي الاحتفاظَ بأكبر مقدار من قرار السلطة في لبنان.
والحكومة العتيدة هي التي ستحضّر قانونَ الانتخابات المقبل، وتشرف على الانتخابات النيابية في ربيع 2022، أي قبل أشهر قليلة من انتهاء عهد عون. كما أنّها ستشرف على الانتخابات البلدية في الفترة إياها. وفي الخريف، ستشرف على انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وفي كلّ الحالات، هي ستتحمّل مسؤولياتٍ جسيمة في التعاطي مع ملفّات النازحين السوريين والفلسطينيين والتسوية مع إسرائيل -على الأرجح- والانفتاح على دمشق – الأسد، وتحديد دور لبنان الإقليمي سياسياً واقتصادياً.
لذلك، يريد «الحزب» وحلفاؤه أن تأتي الحكومة ترجمةً منطقية للتوازنات الجديدة في المجلس النيابي. وأمّا خصومه الإقليميون والدوليون فيريدون أن تكون الحكومة هي الكفّة التي ستقيم الحدَّ الأدنى من التوازن في مقابل المجلس.
إذاً، الخلاف عميق ويتعلّق بفلسفة تشكيل الحكومة، وليس تقنياً ويتمثّل بالحصص بين الأحزاب والقوى المحلية بالمعنى الضيّق للكلمة. أي، هل تكون الحكومة أداةً طيّعة في يد النافذين في المجلس أم تكون أداة «الفرملة» التي تكبح جماح قوى 8 آذار؟
في الترجمة، تريد واشنطن والقوى الغربية والسعوديون أن تكون لحلفائهم من قوى 14 آذار («المستقبل» و»القوات» والكتائب وآخرون) غالبية الثلث المعطّل في أيّ حال، بحيث يمكنهم إحباط القرارات الكبرى والخيارات الاستراتيجية التي يعمل لها «حزب الله» وحلفاؤه، على أن يكون الوسطيون (جنبلاط وآخرون) ضماناً في مرتبة ثانية.
تبلّغَ الحريري هذا الأمر. ولذلك هو يطرح على رئيس الجمهورية صيَغاً حكومية تمنح 14 آذار وجنبلاط حجماً وازناً لا يَرضى به خصومهم، مع عِلمه أنّ هذه الصيَغ ستكون مرفوضة، وأنّ فريق 8 آذار الذي يمتلك الغالبية النيابية لا يمكن أن يَسمح بولادة الحكومة إن لم يكن مرتاحاً في السيطرة عليها. وهذا ما بدأ يُسخِّن علاقات الحريري بالرئيس و«التيار».
ويُراهن الحريري على أنّ الفرج يمكن أن يأتي على الطريقة اللبنانية، فتأخذ القوى الإقليمية والدولية على عاتقها مسؤولية تأليفِ الحكومة على أسس «واقعية»، بعد وصول الأزمة إلى حافة الانفجار الممنوع عربياً ودولياً.
وعندئذٍ، لن يُلامَ الحريري على تأليف الحكومة إذا كانت فيها غالبية القرار لـ»حزب الله» وحلفائه. فـ»ليس في الإمكان أفضلُ ممّا كان، وليتحمّل الذين أخذوا على عاتقهم مهمّة التأليف مسؤولياتهم».
ولكن، المعلومات الواردة عن مناخ التأليف تؤكّد أنّ «حزب الله» وحلفاءَه بدأوا بممارسة الضغوط لدفعِ الحريري إلى حسمِ خياراته. فالمهلة التي ارتضوها من أجل أن يساعدوه على الاحتفاظ برصيده السعودي والغربي بدأت تنقضي، ولا بدّ من ولادة الحكومة الجديدة فيما التحدّيات التي تستهدف «حزب الله» تتزايد.
لقد أوصَل فريق 8 آذار إلى الحريري إشارات مفادُها أنّ عليه أن يتجرّأ ويعلنَ اعتذارَه إذا لم يكن قادراً على تأليف حكومة تُترجم التوازن السياسي القائم في المجلس النيابي، وإذا كان سيستمرّ في المراوحة في وضعية التعثّر. وبعد ذلك، يتمّ تكليف شخصية أخرى لتأليف الحكومة.
وهنا يَجري الهمس في أوساط 8 آذار، قصداً، باسمِ الرئيس نجيب ميقاتي. ويسرّب البعض أنّ ميقاتي يترقّب ما يجري، وأنه جاهز للمهمّة إذا لم يتمكّن الحريري من إنجاز مهمّته.
طبعاً، يعرف فريق 8 آذار أنّ التداول بخيار الاعتذار يستفزّ الحريري، وأنّ انسحابه من عملية التأليف يمكن أن تكون له تداعيات مهمّة. والأرجح أنّها المرّة الأخيرة التي يُتاح فيها للحريري أن يترأس الحكومة في عهد عون.
وبعد انتهاء العهد، أياً يكن الآتي، قد يكون دخول الحريري إلى السراي أكثرَ صعوبةً، خصوصاً إذا أدّى انسحابه من السلطة اليوم إلى تراجعٍ نسبي في هوامش حركته السياسية. ولذلك، يتجنّب الحريري بلوغ قرار الاعتذار تحت أيّ ظرف.
ومِن حظّ الحريري أنّ وجوده في السراي يبقى مصلحةً لعون و»التيار الوطني الحر». فالتآلف قائم بين الجانبين على مختلف المستويات. ولذلك، يحاول عون مساعدةَ الحريري على التأليف وإزالة العُقدِ من أمامه، وهو يفضّل أن يبقى شريكه السنّي لبقيةِ العهد.
ومِن حظّ الحريري أيضاً أنّ القوى الشيعية نفسَها تفضّل وجودَه في السراي، خلال هذه المرحلة. فذلك يبقى الأفضل للحصول على مباركة السعودية للخيارات والقرارات المنتظرة. كما يشكّل وجود الحريري في السلطة ضماناً لاستيعاب غالبية الطائفة السنّية في التسوية. ففي ظلّ حكومة الحريري ووزارة الداخلية المحسوبة عليه، تمَّ إنجاز انتخابات نيابية أعطت «الحزب» وحلفاءَه غالبية واضحة.
إذاً، التحذيرات الموجّهة إلى الحريري تتزايد، لكنّها لا تستهدف دفعَه إلى الاعتذار، بل إلى حسم الخيار. فـ»حزب الله» وحلفاؤه يعرفون أنّهم لا يضغطون على الحريري زعيماً سنّياً، بل إنّهم يتصدّون لمنظومة من القوى العربية والدولية التي ينازعها «الحزب»، ليس في لبنان فحسب، بل على مستوى الشرق الأوسط بكامله. ولذلك، فالمشكلة أكبر من مجرّد نزاع داخلي «تقني» على الحصص والحقائب.