مساء 15 يوليو 2006 بالتوقيت المحلي لمدينة بيروت، قصف مقاتلو «حزب الله» اللبناني سفينة «ساعر 5» الحربية المرابضة على مقربة من الساحل اللبناني، ما أدى إلى مقتل بحارة من طاقمها ووقوع أضرار كبيرة فيها أجبرت الجيش الإسرائيلي على سحبها من ساحة المعركة. لم تمضِ ساعات حتى دمرت المقاتلات الاسرائيلية، في 16 يوليو، المنارة البحرية لبيروت، فضلاً عن موقعين بحريين تابعين للجيش اللبناني في عمشيت وجونية.
حتى ذلك التاريخ، كانت إسرائيل تلتزم «قواعد الاشتباك» التي تقضي بتفاديها المواجهة مع الجيش اللبناني. لكن بعد قصف «حزب الله» السفينة الاسرائيلية، أدركت تل أبيب أن الرادارات البحرية التابعة للجيش اللبناني، التي تفادت ضربها إسرائيل على الرغم من أنها كانت قادرة على تحديد مواقع السفن الاسرائيلية في البحر، هي التي زوّدت «حزب الله» بإحداثيات موقع «ساعر 5». منذ تلك الحادثة، تغيّرت نظرة إسرائيل إلى الجيش اللبناني، من موقف قائل بأن قوة الجيش تعني حُكماً ضعف «حزب الله»، إلى موقف يرى أن جيش وحكومة لبنان أصبحا في جيب الحزب بالكامل.
منذ يوليو 2006، بدأت إسرائيل تحض حليفتها الولايات المتحدة على تقليص المساعدات المالية والعينية إلى الجيش اللبناني، وحاولت إقناعها بعدم جدوى المراهنة على حكومة لبنان لضبط أو تقليص نفوذ «حزب الله»، مع ما يعني ذلك من ضرورة شمل الحكومة بالضغط نفسه الذي تمارسه أميركا والعالم على الحزب.
ومع مصادقة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما على الاتفاق النووي مع إيران، على عكس رغبة إسرائيل، وكجائزة ترضية لتل أبيب وأصدقائها وحلفائها في العاصمة الأميركية، وقّع أوباما قانون العقوبات على «حزب الله» نهاية العام 2015، لكنه ولد كقانون «من دون أسنان»، حسب التعبير المحلي في واشنطن، لأن الولايات المتحدة كانت وافقت على تحرير مليارات إيران المجمدة في مصارف العالم، بالتزامن مع رفع العقوبات عن قطاعات نفطية ومالية إيرانية كبيرة، وهو ما أعطى طهران إمكانية تجاهل قانون العقوبات على الحزب اللبناني وتمويله بالأموال الايرانية المتدفقة على اثر الاتفاقية النووية.
مع وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، انقلبت الصورة من فصل أوباما بين نووي إيران وميليشياتها إلى ربط ترامب بين أموال النووي الايراني وتمويل طهران الميليشيات الموالية لها في المنطقة، خصوصاً «حزب الله». ومع خروج واشنطن من الاتفاق النووي، والتوقعات بخروج مالي أوروبي على الرغم من بقاء الأوروبيين في الاتفاق شكلياً وسياسياً، لم يعد قانون العقوبات على «حزب الله» إجراء «من دون أسنان»، بل تحوّل إلى سلاح فتاك يمكن للولايات المتحدة استخدامه، لا ضد الحزب فحسب، بل ضد دولة لبنان وجيشه، وفقاً للاعتقاد الإسرائيلي – الأميركي المستجد منذ 2006، والقائل بأن دولة لبنان و«حزب الله» لا ينفصلان، وأن سياسة تحاشي إضعاف الدولة وجيشها، بل تقويتها لضبط الحزب أو مواجهته، هي سياسة خاطئة.
هكذا، تبدلت أسس السياسة الأميركية تجاه لبنان، وبدأ النقاش في واشنطن عن كيفية فرض عقوبات على مسؤولين في دولة لبنان، أو قطاعات حكومية لبنانية، كجزء من الحصار المالي والسياسي الذي تحاول أميركا فرضه على الحزب اللبناني.
ومن الأفكار التي تداولها المسؤولون الأميركيون، على مدى الأسابيع القليلة الماضية، تطوير سيناريوهات تتمحور حول تسديد دولة لبنان رواتب وزراء وأعضاء مجلس النواب من التابعين للحزب، وهم أعضاء في تنظيم تصنفه واشنطن إرهابياً، مع ما يفرض ذلك من عواقب وعقوبات على كل من يتعامل مالياً معهم.
ومن الممكن أن تستنبط واشنطن عقوبات تطول مسؤولين في الحكومة العراقية كذلك، لاعتقاد أميركي مفاده أن إيران تستخدم لبنان والعراق لاختراق العقوبات الدولية المفروضة عليها، ولجمع نقد أجنبي تحتاجه طهران بسبب تعثرها في ذلك عبر القنوات الرسمية الدولية.
وتقول مصادر في العاصمة الأميركية ان الادارة الحالية «حددت الاهداف والخطوط العريضة» لسياستها تجاه لبنان، وهذه الخطوط مبنية على اعتبار ان «حكومة لبنان ليست منافسة لحزب الله بل شريكة له». وعليه، يجب تطوير سياسات تحمّل دولة لبنان مسؤولية عواقب موقفها لحملها على تغييره.
وكان المحافظون الجدد حاولوا في إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن الأولى زيادة العقوبات على «حزب الله» ولبنان، لكنهم تراجعوا مع تدخلات حثيثة قادها رئيس حكومة لبنان الراحل رفيق الحريري، والبطريرك الماروني السابق نصرالله صفير، والسعودية، ولوبي يعمل في واشنطن بتمويل من قطاع مصارف لبنان. وقال بوش وقتذاك إنه يرحب بـ«حزب الله» إنْ تحوّل الى حزب سياسي بحت ونبَذَ استخدام العنف.
لكن الحريري اغتيل، وصفير خرج، والسعودية انقلبت من صديق لبنان إلى عدو لـ«حزب الله». وحده لوبي المصارف اللبنانية بقي موجوداً، لكنه بالكاد قادر على حماية القطاع المصرفي اللبناني من الغضب المالي الأميركي المقبل على لبنان.
تتابع المصادر الأميركية ان الإدارة في المراحل الأخيرة من إعداد سلسلة من العقوبات القاسية على مؤسسات وأفراد لبنانيين، من غير «حزب الله»، تشمل مسؤولين حكوميين لبنانيين ومصالحهم، وهو ما سيعطي ترامب خياراً إضافياً في المواجهة التي اختارها ضد إيران ونفوذها في عموم الشرق الاوسط.
(الراي)