مع أن التجربة عوّدتنا أن إيقاع التكليف يختلف عن إيقاع التأليف، يبقى لسرعة التكليف البرلماني للرئيس سعد الحريري واتّساع رقعته المتعددة وقعه على مهمّة التأليف من بعد ذلك، خاصة وأن الإشارة الأساسية التي تطبع مشهد التكليف هي إشارة الاستمرار بعملية التسوية أو التهدئة الداخليتين، المستهلة قبل عام ونصف العام مع انتخاب رئيس الجمهورية، والمتواصلة رغم كل ما واجهته من تحديات داخلية وخارجية، حتى لحظة الانتخابات الاخيرة. وهذه الانتخابات أبرزت تعديلات في الأحجام غير أنها بشكل أساسي لم تشهد تحوّلات شاملة، وهذا بدوره يمكن أن يماشي محاولة السير قدماً بمحددات التسوية المستمرة منذ عام ونصف العام.
بقي ان الظرف الدولي والاقليمي مختلف عن الظرف الذي شهد إبرام التسوية. فنحن لم نعد في نهاية ولاية باراك اوباما، المصرّ على انقاذ الاتفاق النووي مع ايران اياً تكن المعطيات، بل في عز فترة دونالد ترامب، المصرّ على الاطاحة بالاتفاق، وتسخين الامور مع طهران، اياً تكن العاقبة. المتّصل بين الادارتين يبقى، وبالاخص حيال الملف اللبناني، ان التعقّب المالي لأنشطة “حزب الله” اخذ يتوسع في أواخر ولاية اوباما، وارتفع منسوبه في ظل ترامب.
في هكذا ظرف، تشق عملية التأليف الحكومية مسارها بين ضغطين من اتجاهين وموقعين معاكسين. احدهما لإبعاد “حزب الله” عن واجهة السلطة التنفيذية، وآخر يدعو إلى زيادة حضوره في هذه الواجهة. يتقاطع ذلك مع مطالب القوى المختلفة، التي تريد كلها بطبيعة الحال، افضل المقاعد والوزارات لها. التأليف هنا يلزمه سلوك طريق وعرة. لكن ما هو كفيل بتيسير امرها يرتبط باعتماد التسوية المبرمة عشية انتخاب الرئيس ميشال عون كخلفية للتأليف الآن. وهذا يطرح إشكالاً للجميع: هل الجميع مستعد للاحتكام لخارطة توزيع المقاعد والحقائب في الحكومة السابقة، ثم النظر في تشذيبها واسماء من يتولاها؟ أم أنه يلزم بعد الانتخابات ونتائجها إطار مختلف تماماً. من شأن الخيار الاول أن يجعل التأليف سريعاً بعض الشيء، ومن شأن الخيار الثاني ان يحكم عليه بالتباطؤ والمراوحة والسقوف العالية وتمديد الحماوات الانتخابية.
واياً كان المسار، فإن مجرّد الحيرة حول سهولة أو صعوبة التأليف، مباشرة من بعد انتخابات تشريعية، هو كفيل بطرح المشكلة الأكبر: مشكلة سمة النظام السياسي.
ذلك ان النظام البرلماني لا يفترض بموجبه أن يتعثّر تأليف حكومة بعد الانتخابات مباشرة. يمكنه ان يتعثر لاحقاً، لكن ليس بعد الاستحقاق. ذلك ان النظام البرلماني قوامه أكثرية تحكم وأقلية تعارض. اذاً بمجرد ان تفرز الانتخابات اكثرية في البرلمان فهي من يحكم، والمنافسون لها في الانتخابات يشكلون المعارضة. يمكن ان تتبدّل لاحقاً الأوزان في الندوة البرلمانية، ومعها الأغلبية، لكن ليس فور الانتهاء من الانتخابات. بعد الاستحقاق يُفترض ان يكون التأليف سهلاً. أو أقلّه له خريطة طريقه الواضحة.
ليست حال لبنان. هنا الكل يريد ان يحكم وأن يعارض وأن يجلس على طاولة الحوار وأن ينزل الى الشارع، كل هذا في الوقت نفسه. فائض حيوية سياسي يؤدي الى تزويغ في معاني السياسة. لا عمل بمبدأ أكثرية تحكم وأقلية تُعارض. بل كل كتلة نيابية تعتبر ان وزنها البرلماني يعطيها حقاً افتراضياً بكيت وكيت من المقاعد والوزارات. تصير عملية التأليف عندها عملية توفيق بين المطالب المتعارضة. وتشعر حينها اطراف كثيرة بأنها ما زالت في زمن الحملات الانتخابية، وعليها ان تلتزم الخطاب التعبوي الى حين فتح ثغرة قي مفاوضات تأليف الحكومة. وكل هذا لا يساعد على الإسراع بالتأليف.
(المستقبل)