محمد علي فرحات :
إذا أضفنا أربع سنوات هي مدة ولاية البرلمان اللبناني الجديد، يكون الرئيس نبيه بري جلس على كرسي الرئاسة الثانية ثلاثين سنة، والرقم قياسي مقارنة برؤساء آخرين للبرلمان هم: صبري حمادة (18 سنة)، كامل الأسعد (16 سنة)، حسين الحسيني (8 سنوات)، عادل عسيران (6 سنوات)، ولفترات أقل شغل رئاسة البرلمان كل من داود عمون وحبيب باشا السعد ونعوم لبكي والشيخ محمد الجسر وشارل دباس والأمير خالد شهاب وإميل إده وموسى نمور وبترو طراد وحبيب أبو شهلا وأحمد الأسعد.
تكرست رئاسة البرلمان اللبناني للطائفة الشيعية بدءاً من الاستقلال (1943)، باستثناء ولاية أبو شهلا لمدة ستة أشهر، فأصبح هذا المنصب التشريعي مركز قوة طائفية ينافس رئاستَي الجمهورية (الموارنة) والحكومة (السنّة) التنفيذيتين، وبهذا يلعب رئيس البرلمان بالضرورة دوراً ازدواجياً مرهقاً، قد لا يرتضيه لنفسه ولا يرضاه له لبنانيون يعتبرون البرلمان مصدر السلطات وجامع الطوائف، وليس واحداً من المراكز الطائفية المتصارعة.
وللبرلمان (أو المجلس التمثيلي) تاريخ عريق في لبنان، بدءاً من مجلسي القائمقاميتين في جبل لبنان في أربعينات القرن التاسع عشر، ومروراً بمجلس إدارة المتصرفية منذ ستينات القرن التاسع عشر، وصولاً إلى إعلان لبنان الكبير في مطالع عشرينات القرن العشرين بمجالسه التمثيلية ثم ببرلماناته. وشهد «المجلس التمثيلي الثاني»، بين تموز (يوليو) 1925 ونهاية أيار (مايو) 1926، إقرار الدستور اللبناني الذي وضعه ميشال شيحا، وكان أكثر الدساتير عصرية في الشرق. في هذا المجلس بالذات وما بعده، تأكد قبول المسلمين الكيان السياسي اللبناني، بما فيه الأقضية الأربعة (الجنوب والبقاع والشمال) التي تمنّع زعماؤها في البداية وأعلنوا تمسكهم بالانضمام إلى الداخل العربي معبّراً عنه بالملك فيصل حين تولى حكم دمشق وعيّن يوسف العظمة وزيراً للدفاع. زعماء الأقضية هؤلاء، ومعهم ومن قبلهم زعماء في بيروت، ما لبثوا أن تقبّلوا الكيان اللبناني، وترشّح البيروتيان عمر الداعوق وعمر بيهم في الانتخابات النيابية ونجحا في الدخول إلى المجلس التمثيلي عام 1925، وبذلك تخلّيا عن الدعوة إلى الانضمام إلى الداخل العربي، على رغم كونهما من القيادات الأساسية الحالمة بكيان سياسي عربي كبير.
في تلك المرحلة تأكّد قبول المسلمين، ممثلين بأعيان المدن، بالوطن اللبناني الذي انطلق في بناء مؤسساته الدستورية والسياسية، وقد سمّى رعاة الكيان الجديد ومؤيدوه المجلس التمثيلي بـ «مجلس العُمَرَين». واستندت مؤسسات الدولة الوليدة إلى برلمان يمثل شعبها بمختلف أطيافه وتوجهاته، وكان هناك متسع من الحريات السياسية وغير السياسية يسمح بأن يصل إلى البرلمان نواب يتحسرون على كيان المتصرفية المعروف بـ «لبنان الصغير»، وإلى جانبهم نواب يستمرون في التمسك بالعروبة وبأن لبنان مرشح يوماً ما للانضمام إلى دولة عربية كبرى تجمع تحت علمها الواحد دولاً عربية بدأت تتوالد على خريطة الشرق الأوسط.
تاريخ عريق للتمثيل السياسي اللبناني في برلمان استطاع تجاوز محطات الخطر في الحرب الأهلية الطويلة (1975- 1990)، وفي الحضور السياسي والعسكري للمنظمات الفلسطينية، وفي الوصاية السورية المديدة والطامحة إلى حضور لا نهاية له، وفي الاحتلال الإسرائيلي المحدود (1978) والواسع (1982)، وفي الحراك العسكري لـ «حزب الله» والتأثير الإيراني في فترة المقاومة وما بعد التحرير حتى اليوم.
لا يملك البرلمان اللبناني قوة قاهرة تؤمّن له الاستمرار، لكنه يحظى بدعم اللبنانيين أو معظمهم على الأقل، كما بدعم دول كبرى تعي أهمية استقرار لبنان في منطقة التقلّبات المعقّدة. لكن هذا كله لم يمنع ترهّل التمثيل النيابي الذي خضع لاستقطابات زعماء الطوائف، فقلّ عدد النواب المستقلين، وانحصر التشريع برؤساء الكتل وأعوانهم المؤهلين، على ندرتهم. ويكاد البرلمان اللبناني يتحول صدى للسلطة التنفيذية ولزعماء الطوائف المكرّسين وداعميهم محلياً وإقليمياً ودولياً، أكثر من كونه مركزاً للتشريع باسم الشعب الذي انتخب النواب.