اشتعل النقاش. انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. العرب في حال مواجهة مع إيران. إذاً ففي القرار الأميركي مصلحة للعرب، خصوصاً أن بين المآخذ الأميركية والأوروبية على الاتفاق أنه لم يضبط الزعزعة الإيرانية للاستقرار في الشرق الاوسط. إذاً فالعرب مع أميركا، مع دونالد ترامب. هذا الرئيس أقدم على أسوأ عمل عدائي للشعب الفلسطيني، للعرب، للمسلمين والمسيحيين، بل للمجتمع الدولي وللإنسانية، عندما «أهدى» إلى إسرائيل «عاصمة» هي القدس، وقرّر نقل السفارة الأميركية إليها في ذكرى «النكبة» وفق التقويم العربي- الفلسطيني/ ذكرى «الاستقلال» وفق التقويم العبري. ولا يزال ترامب يعتقد أنه بذلك يعزّز السعي الى السلام، ولم يدرك ولا يريد أن يدرك أنه أحبط السلام وأطاحه إلى أجَل بعيد. إذاً فمن الصعب أن يكون العرب مع ترامب بالنسبة إلى فلسطين، وبما أنهم معه في مواجهته لإيران فهل أن مصلحة العرب في سورية واليمن والعراق ولبنان جزء من حسابات إدارته. لا طبعاً، فالمصلحة الأميركية أولاً وأخيراً، وترامب يريد أن يجلب طهران الى تفاوض (إسوة بكوريا الشمالية) قد يقدّم فيه «محفّزات» تطبيعية لهندسة النفوذ الإقليمي الإيراني، ليحصل على تنازلات نووية وصاروخية تشترطها أميركا، لأن إسرائيل تريدها.
نقاش الـ «مع» والـ «ضد» مزمن لكن مرحلته المتواصلة بلا انقطاع تعود إلى لحظة ما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 حين دخل سرطان الإرهاب إلى نسيج علاقة مريضة أصلاً بين أميركا والعرب، وما لبثت إسرائيل أن وظّفت «المعيار الإرهابي» لحسم صراعها مع الفلسطينيين وحقوقه ولتعميمه على مجمل التعامل الأميركي مع المنطقة العربية، كما استخدمته إيران أولاً للتركيز على «الإرهاب السنّي» ثم في الأعوام الأخيرة لإظهار «تمايز» الميليشيات الشيعية التي يفرّخها «الحرس الثوري» بإرهابها الهادف والمنضبط عن إرهاب مَن تسمّيهم «تكفيريين» وتعني بهم المتطرّفين السنّة. وها هو النقاش يسلك متفرّعات جديدة ترمي إلى إثبات وعي عربي مختلف، سواء بأخذ مآسي سورية واليمن والعراق وليبيا لترسيخ أن لا نهوض للعرب من سقطتهم الراهنة أو بأخذ تغوّل القوى الاقليمية لتزوير الوعي العربي واستنتاج أن ما يتعرّض له العرب يستحقّونه ولا أصدقاء أو حلفاء لهم، فمصلحتهم نهبٌ للآخرين جميعاً من روس وأميركيين وإسرائيليين وإيرانيين وأتراك يتصرّفون بها ويقيمون واقعاً شرق- أوسطياً جديداً يتصارعون فيه ويتوافقون، ويتبادلون تسويغ جرائمهم وتمرير انتهاكاتهم طالما أنهم ألغوا من حساباتهم أصوات الضحايا العرب.
بديهي أن أقلّ ما يقال في جدل يسترشد بـ «شريعة الغاب» التي تقيمها قوى متحكّمة ومتلاعبة بمصائر شعوب عربية أنه منافٍ بل محتقر للعقل، فضلاً عن أنه يريد ادماج العرب في قبول الوضع الهجين الذي يتشكّل وفقاً لعناوين كهذه: احتلال روسي- إيراني لمصلحة روسيا في سورية، مراعاة روسية– إيرانية لـ «مصالح» إسرائيل في سورية، تقاسم ثابت للنفوذ الإيراني- الأميركي لمصلحة هيمنة إيرانية في العراق، «تشريع» الأمر الواقع للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، توازن ردعي بين إسرائيل و «حزب الله» لمصلحة إيران (والنظام السوري، موقّتاً) في لبنان…
وعليه، إذا ضربت إسرائيل المنظومة العسكرية الإيرانية في سورية فلمَن المصلحة؟ لإسرائيل طبعاً، لا لسورية ولا للعرب. وإذا «تقاطع» العداء الإسرائيلي- الإيراني مع العداء العربي– الإيراني فهل يصبح «عدوّ عدوّي» – تلقائياً – «صديقي»؟ على العكس، يجب ألا يُنسى أن هذين العدوّين مرشّحان لأن يصبحا صديقَين أو على الأقلّ طرفَين متعايشَين. وهل أن المعاناة القاسية لشعوب عربية كثيرة من جرائم التخريب الإيراني لبلدانها ومجتمعاتها تُلغي معاناة الشعب الفلسطيني من جرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمر وهل تُكسِب هذا الاحتلال أي شرعية في فلسطين، وبالتالي في الجولان السوري؟ وهل أصبح مفهوماً/ ومقبولاً أن يستعرض بنيامين نتانياهو وثائقه الاستخبارية عن برنامج نووي إيراني لم ينتج بعد أي قنبلة، فيما تُخفي إسرائيل عن المجتمع الدولي كل المعلومات عن ترسانتها النووية التي أرعبت بها العرب وكرّست تفوقها عليهم وحسمت صراعها معهم؟ وهل أن الاستسلام والانكشاف العربيين باتا المعطى الضروري للاستقرار الإقليمي؟
أسئلة لا بدّ منها، لا شحذاً لواقع العداء العربي القائم مع الدولتَين، بل لأنه ينبغي أن يكون العرب استوعبوا، متضامنين افتراضياً أو متفرّقين كما هو السائد، أن تبدّد مصالحهم نتيجة لانعدام الوزن الاقليمي لدولهم وقد تضافروا طوال عقود على تضئيله. وبالتالي فإن هذه المصالح لن تتحقّق بمفارقات جيو-سياسية ولا بمقايضات نظرية وعشوائية، ولن تؤسّس علاقات طبيعية مع الجوار الإقليمي ولا حتى علاقات سويّة داخل مجتمعات عربية محبطة وترفض أجيالها الجديدة أن تُدفع من إحباطات إلى احباطات. وعلى رغم مرحلة التحوّلات الصعبة التي تمرّ بها المنطقة العربية ثمة مفاهيم لا يمكن أن تقلبها الظروف، منها: أن الأمن الاقليمي لا يُبنى على أسلحة الدمار الشامل ومعادلات الرعب والإخضاع مهما اختلّت التوازنات، وأن أي سلام إقليمي يمكن تصوّره لن يقوم على تقاسمات النفوذ بين الدول المتدخّلة أو على أشلاء الكيانات الجغرافية والمجتمعات أيّاً تكن الإكراهات، وأن قضية فلسطين لا يمكن الرضوخ فيها لإرادة الاحتلال الذي يبحث عن تصفيتها وحلّها بمعزل عن أي حقوق إنسانية أو شرعية دولية، وأن المسألتِين السورية والعراقية لا يمكن أن تُخضَعا لمنطق المحاصصات الدولية والإقليمية.
كانت الولايات المتحدة احتكرت التوسّط بين الفلسطينيين والإسرائيليين وحصلت على إقرار عربي بأن السلام «خيار استراتيجي» لا يزال قائماً. أما الوقائع فبيّنت أن السلام ليس خيار الأميركيين والإسرائيليين، وأن تفاهمهم الاستراتيجي جعل من المفاوضات مع الفلسطينيين و «عملية السلام» خديعة علنية ثم حوّلها ترامب أخيراً وسيلةً لتشريع انتهاك القانون الدولي. أقنعه الإسرائيليون بأن «حق العودة» للفلسطينيين أُسقط عملياً، وأن الاستيطان ماضٍ في قضم الأرض بفضل الحصانة الدولية التي توفّرها واشنطن، وأن إقصاء ملف القدس هو الخطوة الوحيدة المتبقّية لإنهاء القضية الفلسطينية. وهكذا تجدّدت «النكبة» وسط الثرثرة عن خطة للسلام بعدما كانت «النكبة» حلّت بالحرب، وليس هناك أكثر وضوحاً من الرسالة الأميركية- الإسرائيلية: من يخسر الحرب لا يكسب السلام، وقاعدة القواعد هي موازين القوى.
كل ذلك تتلقفه إيران على أنه تزكية لسياساتها الاقليمية، وإذا كان العرب لا يتعلّمون من الهزائم والأخطاء فإن إيران تتعلّم وتقتبس من ممارسات إسرائيل، وهي تطبّق معظمها مباشرةً في سورية وطبّقت جانباً منها في العراق. وعندما تدخّلت روسيا في سورية تفاهمت مع إيران على ضمان مصالحها وعدم اعتراض علاقتها مع نظام بشار الأسد مقابل أن يقدّم الإيرانيون الإسناد البرّي للقوة الجوية الروسية. وفي المقابل، احتفظت موسكو لنفسها بالإشراف على المواجهة بين إيران وإسرائيل من دون التحكّم بها كليّاً لكن بإدارتها لئلا تؤدّي إلى انفلات تصعب السيطرة عليه. وعلى رغم أن هذه الصيغة تبدو مكلفة للإيرانيين حتى الآن إلا أن ضربات إسرائيل تبدو معنية فقط بإبعاد أي خطر من حدودها وليس بإنهاء الوجود الإيراني أو توغّله في العمق السوري أو خطوط إمداده مع «حزب الله» في لبنان، أي أنه طالما بقيت إيران قادرة على تحقيق «مشروعها» وتأمين خطّها الممتد من طهران إلى بيروت فإنها مستعدّة لتحمّل الخسائر. ولعلها تعتبر في هذه الحال أنه بدل أن تهدّد الضربات الإسرائيلية حضورها فإنها على العكس ترسّخه.
كان من الطبيعي أن يؤيّد العرب الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، بمعزل عن دوافع ترامب ومطالبه. ذاك أن الاتفاق والمفاوضات التي سبقته وقوّة الدفع التي تلته شكّلت خلفية ودعامةً لأكثر التدخّلات الإيرانية دمويةً وتخريباً في كلٍّ من البؤر التي غزتها مباشرةً أو بواسطة ميليشياتها. فحتى حصولها على قنبلة نووية ما كان ليتيح لها أو لأتباعها محاولة السيطرة اليمن، لأن قنبلتها الأخرى، المذهبية، أثبتت أنها أكثر خطراً وفاعلية. في النهاية، يجب ألا ينسى العرب أن ثمة مواجهة أميركية (وإسرائيلية) لكن هناك صراعاً أميركياً- روسياً- صينياً على استقطاب إيران، وهذا لن يمرّ من دون أخذ أطماعها في الاعتبار.
* كاتب وصحافي لبناني