حازم الامين:
شكلت الانتخابات النيابية اللبنانية فرصة لأن تكشف كل جماعة أهلية عن أبشع ما تُكنّه من مشاعر للجماعة الأخرى. هي حرب أهلية يستعاض فيها عن البندقية بالكلمة المسمومة. المرشح على لائحة «حزب الله» جميل السيد، ولكي يحصد أصوات الشيعة في البقاع عليه أن يذكّرهم بأنه الابن المدلل لحافظ الأسد، ذاك أن الناخب الشيعي المخاطب يحب في حافظ الأسد كره الناخب السنّي له. وتيار المستقبل يستدرك خسائره لدى ناخبيه من أهل بيروت عبر تحذيرهم من أن البديل عنه سيكون أن تتحول مدينتهم إلى طهران أخرى، ويلوح لهم بغزو الشيعة مدينتهم. وفيما تبدو القوى المسيحية خارج هذا السجال، تستعين برذيلة أخرى في سياق سعيها لحصد الأصوات، وهي رفع صوت عنصري بوجه النازحين السوريين، والفلسطينيين قبلهم.
تدرك هذه القوى الانتخابية أن الجماعات الأهلية تستجيب إلى هذه الأصوات، على رغم أن الكراهية التي تنطوي عليها انقضت مفاعيلها الحقيقية والسياسية. حافظ الأسد ليس أكثر من أيقونة كراهية تحتفظ بها الجماعة الشيعية وتخرجها في لحظة اضطراب أهلي، وبيروت صارت طهران أخرى منذ سنوات بعد أن هزم «حزب الله» تيار المستقبل في أحيائها، والأخير سلّم بهذه الحقيقة وشارك بحكومات على أساسها، أما الصوت العنصري في وجه النازحين فقد استَحضر في سياق اشتغاله رموزاً من خارج السياسة، فثُبتت عبارات لبشير الجميل على اللافتات الانتخابية، بصفتها خُطَباً راهنة، فيما هي جزء من زمن انقضى منذ عقود.
في الأداء السياسي لا تمارس القوى السياسية هذا القدر من الكراهية. «حزب الله» لا يُشهر صورة حافظ الأسد في الجلسات الحكومية، وتيار المستقبل لا يتعامل مع الحزب بصفته قوة احتلال، والقوى السياسية المسيحية هي اليوم شريك ومستفيد من حال الفساد في إدارة ملف اللاجئين السوريين، وبهذا المعنى فإن الفارق بين اللغة الانتخابية واللغة السياسية تفرضه شروط المنافسة، وهو فارق يكشف عن حقيقة مريعة تتمثل في أن الطبقة السياسية أكثر أخلاقية وحكمة من الجماعات الأهلية، وأن الزعماء مجرد مستجيبين لسوء نوايا من يرغبون في تمثيلهم.
لـ «المستقبل» علاقات موازية مع «حزب الله» لا تشبه اللغة الانتخابية التي يعتمدها في مواجهته، و «حزب الله» من جهته يضرب صفحاً عن لغة «المستقبل» الانتخابية. هو يُقدّر أن الناخب البيروتي لا يحبه، وشريكه في الحكومة لا يعبّر في لغته الانتخابية عن حقيقة ما يمارسه. فوزير الداخلية نهاد المشنوق هو أقرب المستقبليين إلى «حزب الله»، لكنه انتخابياً الصوت الأعلى في وجه الحزب. الانتخابات شيء والسياسة شيء آخر.
والحال أن الكراهية اللبنانية وجدت لنفسها قانوناً تشيد عليه صرحها، ففكرة الصوت التفضيلي تمثل هذه الحقيقة تماماً. وعلينا هنا أن نلاحظ أن قانون الصوت التفضيلي أحدث شقاقاً فعلياً داخل الطبقة السياسية، إلا أنه استجاب على نحو كبير لمشاعر الشعوب اللبنانية، وشكل فرصة حقيقية لتظهيرها على نحو صادق، فإجبار الناخب بلائحة منوعة طائفياً جرى تعويضه عبر إعطائه فرصة لممارسة الكراهية عبر الصوت التفضيلي، وفي هذه اللحظة هبت الطبقة السياسية هبة الرجل الواحد لاهثة وراء نزق الناخب ووراء أسوأ ما يعيشه من مشاعر. والقول إن الطبقة السياسية هي من سن هذا القانون ليس دقيقاً، فهو لا يستجيب لمصالحها بقدر استجابته لمشاعر الناخبين وأمزجتهم المضطربة.
لا تتنافس القوى السياسية والطائفية اللبنانية على الصواب السياسي. على العكس تماماً. فأن يقف جميل السيد مباهياً منافسيه بأنه الابن المدلل لحافظ الأسد، فهو يدرك أن ليس في هذا صواب سياسي أو صواب أخلاقي. فيه صواب انتخابي. وبما أن الصواب الانتخابي لا يلتقي مع الصواب الأخلاقي فإن الانتخابات لا تجرى في حقل أخلاقي، وهي ليست فرصة تصويبية على نحو ما هي الانتخابات عادة، إنما هي فرصة لبعث ما هو أسوأ ما لدى الجماعات الأهلية من مشاعر ومن طموحات.