مثل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسحب القوات الأميركية من سوريا بمجرد القضاء على جيوب داعش في البلاد، انعطافة كبيرة في السياسة الأميركية، فالإدارة الأميركية التي بدأت بخطاب قاس ضد داعش وإيران على حدّ سواء، انتهت الآن في مكان آخر تماماً.
صقور التشدد وملامح البداية
ففي الأسابيع الأولى من عمر الإدارة الأميركية كان هناك تيار واسع يعتبر أن الإدارة الديموقراطية السابقة برئاسة باراك أوباما أخطأت في الخروج من العراق العام 2011، وأن هذا الخروج السريع والكامل فتح الباب أولاً أمام النفوذ الإيراني وثانياً أمام عودة التطرّف وصعود تنظيم داعش الإرهابي.
اعتبر رموز الإدارة أنه يجب تصعيد الحرب ضد داعش ومنع إيران من إهانة الجنود والبحارة الأميركيين، ويجب صدّ التصرفات الإيرانية واستعمال القوة العسكرية عند الضرورة.
وكان الرئيس الأميركي واضحاً في هذا المجال كما أن وزير الدفاع جيمس ماتيس اعتبر أن الخطر الأكبر هو إيران، فيما وجّه مستشار الأمن القومي الجنرال فلين إنذاراً لإيران بسبب تصرفاتها واجرائها تجارب بالصواريخ الباليستية.
وفي تفاصيل وضع السياسة الأميركية تجاه المنطقة مثّل الجنرال فلين رمزاً للصقور، وكان إلى جانبه في دائرة الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي عقيد متقاعد هو ديريك هارفي وقد مثّل هارفي بالذات خطّ التشدّد المطلق.
10 آلاف جندي أميركي في سوريا لاستنزاف إيران
طرح العقيد هارفي أكثر من مرّة خلال المناقشات سيناريوهات لاستعمال القوة العسكرية الأميركية ومن ضمنها إرسال قوة أميركية تصل إلى 10 آلاف جندي أميركي إلى سوريا، أولاً لدحر داعش، وثانياً لإيجاد حضور عسكري أميركي واسع يستطيع الوقوف في وجه النفوذ الإيراني والنظام وروسيا في آن معاً.
استعاد هارفي بالذات، بحسب أشخاص تحدّثوا إليه خلال تلك الفترة “مبدأ الاستنزاف”، وشدّد على أن تصوره يجب أن يستعين بتكتيكات المواجهات خلال الحرب الباردة.
كما دعا العقيد هارفي إلى استنزاف روسيا وإيران في سوريا بالإضافة إلى قطع “الطريق السريع” بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت.
وأراد هارفي أيضاً من خلال هذا السيناريو أن يتسبب بنزيف مالي وبشري للنظام الإيراني الذي يصرف سنوياً 14 مليار دولار على النظام السوري، واعتبر أن الساحة السورية مكان جيّد للتسبب بأضرار فادحة للنظام الإيراني من ضمن المواجهة الشاملة مع إيران.
لكن لم يمضِ وقت طويل من رئاسة دونالد ترمب حتى خرج الجنرال فلين من الأمن القومي ودخل الجنرال ماكماستر.
وماكماستر يمثّل أيضاً خطاً متشدداً ضد إيران، لكنه وجد أن مساعده العقيد ديريك هارفي متطرّف في سيناريوهاته فيما ماكماستر يريد خطة أميركية أقلّ شراسة في سوريا.
بعدها خسر العقيد هارفي وظيفته في يوليو2017 وتمّ استبداله بموظف أقلّ تصلّباً.
ترمب غير مهتم بالانغماس في الشرق الأوسط
جرت نقاشات كثيرة في الإدارة الأميركية خلال تلك المرحلة وأهمها النقاش حول أي استراتيجية على الرئيس ترمب تبنّيها ضد إيران وفي الشرق الأوسط بما في ذلك سوريا.
ولاحظ مساعدو الرئيس الأميركي أنه غير مهتم بالانغماس في الشرق الأوسط، بل يركّز اهتمامه على دحر داعش كهدف مباشر وقصير، ومواجهة مشكلة إيران من جوهرها وليس من أطرافها.
وسط هذه النقاشات قام الرئيس الأميركي بتكليف وزير الخارجية حينذاك ريكس تيلرسون بوضع استراتيجية سوريا.
عمل تيلرسون مع صديقه وزير الدفاع جيمس ماتيس على وضع استراتيجية تقوم على دحر داعش ومنع عودتها واستعمال الحضور المطوّل للقوات الأميركية في منطقة شمال شرق سوريا لمواجهة النفوذ الإيراني ودفع الأطراف للذهاب إلى مفاوضات جنيف.
وتمّ الإعلان عن هذه الاستراتيجية في خطاب للوزير تيلرسون في جامعة ستانفورد يوم 18 يناير 2018 وشكّلت تراجعاً كبيراً، ففي بداية العام 2018 كانوا يتحدثون عن حرب استنزاف وإرسال 10 آلاف جندي أميركي، ووصلت الاستراتيجية إلى نشر 2000 جندي على الأرض مع الحلفاء لمنع عودة داعش.
جيمس ماتيس أعلن أن الأميركيين باقون ولفترة طويلة، ولن يكرروا خطأ الانسحاب مثلما حصل في العراق 2011 وبدا الرئيس الأميركي دونالد ترمب مقتنعاً.
ضغوطات كبار المسؤولين
أما الآن فيسرد من تابعوا تلك المرحلة أن الرئيس لم يكن يوماً مقتنعاً بذلك، بل إنه خضع لضغوطات كبار المسؤولين في إدارته، ومنهم الجنرال ماتيس الذين قالوا له في حينه، إن الانسحاب هو بالضبط ما فعله سلفه باراك أوباما، وكان خطأ كبيراً ولا يجب أن يكرر ترمب ما فعله سلفه الذي طالما انتقد سياسته المتأخّرة في سوريا والليّنة مع إيران.
ترمب مهتم بناخبيه فقط
أمور كثيرة حدثت خلال الأسابيع الماضية، أولها أن الرئيس الأميركي بدأ يتحدث إلى معاونيه القريبين عن ضرورة الخروج من سوريا سريعاً، وعاد لتكرار لازمة القضاء على داعش وترك سوريا للقوى الإقليمية وروسيا، والقول إن لا مصالح استراتيجية أو تجارية للولايات المتحدة في سوريا.
تزامن ذلك مع “تخلّص” ترمب من هيكل الأمن القومي من حوله، أولاً طرد ريكس تيلرسون من وزارة الخارجية، ثم أعلن أن الجنرال ماكماستر سيذهب إلى التقاعد، فيما بدأ أيضاً يخرج عن إدارة الجنرال جون كيلي رئيس أركان البيت الأبيض.
كما عاد الرئيس الأميركي إلى خطاباته الشعبية، يركّز فيها على الأمور الداخلية ومصلحة الأميركيين أولاً، مثل بناء الحائط مع المكسيك وحماية الصناعات بفرض ضريبة على المنتجات الصينية، ويعطي الانطباع أنه مهتمّ بناخبيه فقط.
وأعلن ترمب في خطاب شعبي يوم الخميس 29 مارس أن القوات الأميركية ستترك سوريا قريباً.
ففاجأ في كلامه مساعديه، وكرّر الكلام ذاته يوم الثلاثاء 3 إبريل قبل ساعات من اجتماع مجلس الأمن القومي لمناقشة الخطوة التالية في سوريا.
“الآن لا ينطقون جملة مواجهة إيران في سوريا”
من المفارقات أن ترمب وفي اليوم ذاته ناقش مع أعضاء حكومته تصاعد عدد المهاجرين من جنوب أميركا ممن عبروا حدود المكسيك إلى أراضي الولايات المتحدة، وقرر بعد ساعات إرسال قوات الحرس الوطني للمساعدة في منع تسرّب المهاجرين غير الشرعيين.
في المقابل، نقل عن ترمب قوله في اجتماع مجلس الأمن القومي إنه سأل عن كم من الوقت تحتاج القوات الأميركية لإنهاء جيوب داعش على الأرض في سوريا، وأبدى تبرّماً لأن وزير الدفاع لم يتمكّن من إعطائه مهلة قريبة ومحدّدة، فبادر الرئيس الأميركي للقول إنه لا يريد عقد اجتماع آخر بعد ستة أشهر لمناقشة هذا الموضوع.
بعد كل هذا، نقل أحد زوار مجلس الأمن القومي عن محدّثيه أنهم الآن لا ينطقون جملة “مواجهة إيران في سوريا”.