سوسن الابطح:
«لم يسبق للبشرية أن عاشت مرحلة أكثر سلماً وهدوءاً ورفضاً للعنف كالتي نحياها اليوم». وإن كان العرب في حمم الموت يشتعلون، وبالمجازر يصبحون ويمسون، فهذا ليس معناه أن الكوكب خرب، بل إن ثمة مناطق محددة جداً، أصبحت بسبب نزاعاتها، تمثل شذوذاً عن بقية أمم الأرض. ويستشرس أستاذ جامعة هارفارد المفكر المعروف ستيفن بنكر في الدفاع عن فكرته المتفائلة حول بلوغ البشرية تطوراً غير مسبوق، في مختلف المجالات رغم تشاؤم البعض، ولا يتوقف في كتابه «الجانب الملائكي الذي فينا» عن دعم نظريته بالأرقام والإحصاءات. فأنْ يعيش العراق حروباً متناسلة منذ ثمانينات القرن الماضي لا يخرج من واحدتها إلا وتبدأ أخرى، وتصبح ليبيا دولة تحكمها الميليشيات، واليمن أمثولة في البؤس والاقتتال الأخوي الذي ليس له قرار، وسوريا كأنها نهاية الأمل، فهذه ليست سوى بقعة تكاد تكون معزولة في مأساتها، عما ينتظره الآخرون من غدهم.
هناك شبه توافق بين مفكرين كثر على أن ثقافة المجتمع وأعرافه هي السبب الرئيسي وراء كل نزاع مسلح، وأن قصور التفكير هو الذي يمنع المختلفين من الوصول إلى تفاهمات تقيهم الكارثة. ويعود الغربيون إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكبار فلاسفتهم، ونظرياتهم الإنسانية، ونهضة التاسع عشر بمفاهيمها الأخلاقية، وتأثيرها على سلوك الأفراد، وتهذيب الدساتير لتفسير انتهاء عهد الاقتتال بعد الحربين العالميتين الشرستين، حتى بات يقال إن النزاعات المسلحة الكبيرة بين الدول أصبحت من الماضي، ولم يبقَ غير الاضطرابات الداخلية والمواجهات الضيقة، التي تندلع هنا وهناك.
ووصل الأمر أن خصصت مجلة «سيانس هيومن» الفرنسية عدداً خاصاً اعتبرت فيه أن «السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين هي من بين الأكثر سلمية على الإطلاق في حياة البشر» وحين تقرأ الباقي ينتابك إحساس بالأسى، كيف تحتفل الأمم بخلاصها، ويرتع العربي في قعر موحش، وبؤس من دون بصيص ضوء!
وبالعودة إلى الثقافة التي يمكنها أن تجعل أصحابها حطباً لجهنم أو ثمراً في الفردوس، فإن دانيل غولدهاجن صاحب كتاب «المجازر والإبادة أسوأ من الحرب» يرى أن الشهية الشديدة للقتل التي تنتهي بمجزرة، تترافق دائماً والإحساس بأن الآخر عدو يشكل خطراً على المجموعة أو العرق أو الدولة التي ينتمي إليها القاتل. وهكذا فإن السفك تسبقه فكرة مريضة في الرأس وتمتد أصوله إلى التربية الأولى والتنشئة الحاقدة.
لذلك ليس غريباً اكتشاف أن الأمم الأقل عنفاً هي الأكثر نجاحاً في التعليم وتهذيب نفوس الأطفال وإعدادهم للمستقبل. المسألة مركبة، وتفتح أبواب السؤال على ما إذا كان قدر العربي سيبقى محكوماً بالدم، ما دمنا دخلنا في نفق التسرب المدرسي المتزايد، ففي سوريا وحدها 3.5 مليون طفل لاجئ، لم يتلقوا تعليماً داخل المدارس العام الماضي. وغياب التعليم ليس كارثة سوريا وحدها أو اليمن أو ليبيا، فـ«اليونيسكو» لا تعتمد التسجيل المدرسي في حكمها على تخلف دولة تعليمياً أو تطورها، بل القياس يكون بمقدار اكتساب المعرفة. المدارس يزداد عددها أينما نظرت حولك، لكن 753 مليون إنسان لا يزالون أميين. وهناك عربي واحد من كل خمسة بالغين يرسف في الأمية. والبعض يدخل المدرسة ويتركها قبل أن ينال قسطاً من العلم يؤهله لبناء حياة أفضل. ومستوى البطالة في بلادنا، دليل فشل الحكومات، لكنه أيضاً إدانة لنظام تعليمي يحتاج إلى الكثير من الاجتهاد ليصبح أكثر مرونة ومعانقة للسماحة والحوار. ففي اختبارات «بيرل» العالمية لقياس مدى تعلم الطفل لغته الأم، تأتي الدول العربية في نهاية السلم، لا بل الأسوأ على الإطلاق. ومن لا يتقن لغته الأم، لن يتقن أي لغة أخرى في ما بعد، وإن تبجح بمعرفتها، كما يقول اللغوي لويس – جان كالفي. وهناك من يرى أن ضعف اللغة الأم وقصورها على صلة وثيقة بالتعبير عنفياً.
وبينما تحتفي غالبية الدول بتحسن نتاجها ونمو أرقامها، تحصد دول عربية عديدة نتيجة حروبها وغيرها تدفع فاتورة نزاعات جيرانها، كما حال لبنان مع لاجئيه. ويرى العالمُ العربَ كتلة واحدة، ويحصي أرقامهم كمنطقة، ولو أحبوا أن ينأوا بأنفسهم عن التقييم الجماعي الذي لم يعد يرحم، ويلجأوا إلى اعتباراتهم الداخلية، التي تسرّ أحياناً وتجرح في غالبية المرات. وأياً تكن أحوال العباد في هذه المنطقة التي للحياة فيها مرارة، فإن النظر إلى ما يبتهج به الآخرون، من انخفاض حتى للجريمة الفردية، على عكس كل الاعتقادات، وتحسن لمستوى عيش الفرد رغم الشكوى والتذمر بسبب ارتفاع نسبة الاحتياجات، قد يبعث بحوافز عربية لم تكن موجودة قبلاً. ويقال لك إن بلداناً لم يكن يتذكرها أحد مثل سريلانكا وجورجيا، تسير بخطى مشجعة صوب محاربة الفساد ودمقرطة الدولة، وأن نصف دول الدنيا أصبحت ديمقراطية بالفعل. وبينما كان عدد السكان الذين يعيشون تحت حكم نظام ديمقراطي هم ثلث الكوكب، فقد وصلوا إلى 65% في المائة اليوم.
هل نبقى استثناءً مع بعض الدول التي لا تزال تتصارع من أجل ما يعتبره الآخرون من مخلفات الماضي؟ هذا سؤال طرحه ملحّ، وقد فاضت الدماء أنهاراً وبلغ الانهيار منتهاه، كي نحتفل مع باقي الأمم، ومجلة «سيانس هيومن» بـ«التطور» على اعتباره «فكرة القرن الحادي والعشرين» التي لا تُقهر، وكل ما يخالفها أصبح خارج الزمن.
أستاذة في “الجامعة اللبنانيّة”، قسم “اللغة العربيّة وآدابها”، صحافيّة وكاتبة في جريدة “الشّرق الأوسط”