ماجد التركي :
أنتجت المرحلة العربية الراهنة (ما بعد الثورات العربية) وما تبعها من تداعيات، قيادات سياسية عربية صُنعت بإرادة دولية؛ للخروج من أي تحولات سياسية غير محسوبة، قيادات لا يمكنها أن تتعاطى مع الوقائع بشكل منطقي يستجيب لحاجات المجتمع ومتطلباته، قيادات لا يمكن التعويل عليها في التغيير الإيجابي العربي، وإن ادعت الصدق في توجهاتها ومشاريعها الوطنية.
شهد العالم العربي تحولات جذرية أعقبت تداعيات الربيع العربي، أحدثت عمقاً في تشكيل البُنى السياسية العربية، وانعكست بالتغيير العكسي في الطبائع الاجتماعية للشعوب العربية، تزامن مع ذلك تأسيسٌ لخلل أمني وتدهور اقتصادي «غير مفهوم وغير مبرر» يعمل بشكل مباشر في تحقيق توجيه الدفّة الاجتماعية العربية نحو تقرير وقائع محلية، «وإن تناقضت مع المبادئ الدينية والأعراف الاجتماعية للعمق الحضاري العربي»، وكذلك تعديل المزاج والإرادة الشعبية العربية نحو تغيرات إقليمية تتناقض مع المسلَّمات العربية، وتأتي هذه التوجهات كضرورة منهجية ومتطلب عملي لخدمة المرحلة العربية المقبلة، والتحولات التي يجري التمهيد لها «بأدوات وتطبيقات إقليمية».
صحيح أن العالم العربي (على مستوى الشعوب) يعيش حالة من اليأس والبؤس تفوق الحالة قبل الثورات العربية، التي قادت إلى الثورات السابقة. (سبق النشر في صحيفة الشرق الأوسط، السبت 7 ربيع الأول 1429، العدد 10.700، عن الحالة العربية المتردية التي مهدت لثورات الربيع العربي، بعنوان: «مستقبل الاعتماد على الذات العربية»).
ولكن المرحلة التي تجري الآن لن تقود إلى ثورات شعبية جديدة، لاعتبارات أهمها؛ سيطرة الأجهزة السياسية والأمنية على وسائل التواصل الاجتماعي وإدارة المزاج العربي وفق إرادتهم، وحالة التجريم المفضي إلى العقوبات القسرية لكل صوت يرتفع بالنقائض، إضافة إلى السطوة الإعلامية الليبرالية التي تتناقض مع أبسط المصالح والحقوق الاجتماعية الطبيعية لشعوب العالم العربي، وكذلك غلبة الحس الأمني على الحقوق المجتمعية العربية.
هذه الأجواء العربية التي تم اصطناعها، خطوة تأسيسية للمستقبل الإقليمي في العالم العربي، هذا المستقبل لم يرسم ليعيشه العالم العربي بذاته، مستقبل تم التحضير له بعناية، (تمّ باستحضار الخطر الإيراني المباشر على العالم العربي والخليجي على وجه الخصوص)، والنفوذ الإيراني بالوكالة «الحشد الشعبي في العراق وسورية، والحوثي في اليمن» واستخدمت الإدارة الأميركية هذا الهاجس، وكرسته «أثناء زيارة ترامب للمنطقة» لتقرير مبدأ المساومة في مواجهة خطر إيران، على أن يقابل ذلك تحقيق مصالح إسرائيلية (سبق تعليقي على هذا في حينه مباشرة على قناة الجزيرة، بتاريخ 23 مايو 2017، متوفر على اليوتيوب)، بأن التغطيات الإعلامية لزيارة ترامب تجاهلت موضوعين، الأول: موقف القوى الدولية من الاستحواذ الأميركي، ما قد يعني التواطؤ على أمر ما، الثاني: أن الإدارة الأميركية تحمل أجندة «إسرائيل مقابل الخطر الإيراني».
هذه المعطيات جاءت تمهيداً لانطلاق المرحلة الجديدة للكيان الصهيوني أولاً، وتحقيق جانب من المصالح «الجيوسياسية الإيرانية» بدرجة تابعة، بحيث لا يمكن في هذه المرحلة تحقيق مصالح إسرائيل بالتصادم مع المصالح الإيرانية، كما لا يمكن تحقيق تحرك إسرائيلي مكشوف، من دون توفير غطاء إيراني للتبرير لذلك، وقد يكون السيناريو المرتقب، وفق الآتي:
1- تحجيم الأذرع «الإيرانية – الإسرائيلية» التي تدير الصراع، والمتمثلة في «الحشد الشعبي الشيعي، والجيش الديموقراطي السوري والقوى الكردية»، ليقابل ذلك بروز التحرك الإيراني والإسرائيلي المباشر، في إدارة الصراع على الأرض.
2- خلق نقاط تماس وتصادم شكلي إيراني – إسرائيلي يفضي لتدخل أممي لتسوية الخلاف بينهما، وفق توزيع مناطق النفوذ على الجغرافيا العربية «العراق وسورية».
3- الملامح الرئيسة لمناطق النفوذ الإيراني – الإسرائيلي تتمثل في الشريط الجنوبي العراقي – السوري بيد إيران، والشمال العراقي – السوري بيد إسرائيل، وسبق هذا السيناريو ممهدات على الأرض، يلاحظها أي متابع، ولن يكون الأردن بعيداً عن خط تماس هذه المصالح الإقليمية.
ثمّ وماذا بعد هذا؟ تلمس الجواب من خلال حيثياته هو المغزى المستقبلي! وحتى نستوعب المغزى المستقبلي، لا بد من تقرير مسألتين مسلَّمتين؛ الأولى: أنه لا بد لإيران من أن تخرج من عزلتها الجغرافية الفارسية، فهي بين «شرق أتراكي، وغرب عربي»، وهذا متطلب رئيس حتى تستطيع الحياة وفق المشروع الاستراتيجي الإيراني – الفارسي، ويجب هنا أن نتناسى دعاوى تصدير الثورة، فهي وسيلة للتغلغل الفارسي في مناطق نفوذ وتمدد، والوصول إلى مناطق عمق استراتيجي لا أكثر، وهذا ما تحقق لها؛ بدءاً من مزار شريف في أفغانستان، مروراً بطاجيكستان، إلى جنوب العراق وسورية ولبنان، والقوى الدولية، روسيا والصين، تدركان ذلك ولكنهما تتفهمانه نظراً إلى أنه يخدم المشروع الاقتصادي «طريق الحرير»، وأميركا وبريطانيا مسلمتان بهذا الأمر ومدركتان له، لاسيما أنه لا يتصادم مع المشروع الإسرائيلي الذي بدأ انطلاق مرحلته الجديدة برعايتهما، بحيث تصبح إيران حاضنة لعدد من ملفات التسوية في المنطقة.
المسألة الثانية: تتمثل في المرحلة الإسرائيلية الجديدة، والتي تتسم بظهور الصوت الإسرائيلي على الساحة مباشرة من دون الحاجة إلى الوكيل الأميركي أو البريطاني، وتستهدف السيطرة على مناطق الشمال العراقي والسوري بـ«مظلة كردية» وتحت غطاء دولي لتقسيم سورية والعراق طائفياً؛ بدعوى الخروج من أزمات المنطقة. وتركيا مدركة لهذا التوجه، فهي تحاول استباق الأحداث «ولو بالتصادم مع أميركا» ليكون لها موطئ قدم في مناطق الأكراد، وتكون أحد عناصر المساومة الدولية للمرحلة القادمة، التي سيغيب عنها بُعد المصلحة العربية بالكلية.
وهذا تفسير ما قلته أعلاه بأنها «خطوة تأسيسية للمستقبل الإقليمي في العالم العربي، هذا المستقبل لم يُرسم ليعيشه العالم العربي بذاته»، والأسوأ هنا أنّ السلام أو التطبيع مع إسرائيل لن يكون خياراً عربياً، فسيكون وفق الإرادة والمصلحة والمزاج الإسرائيلي، حينها سيكون العرب فقدوا كل أدوات ومقومات الضغط والمساومة، فجميع المقومات والأدوات ستكون في يد إسرائيل، فهي صاحبة الإرادة وهي التي ستفرض شروطها للتطبيع والسلام مع العرب.
والمهم هنا أيضاً، أين ستكون المعادلة الإيرانية؟ يمكن النظر إلى هذا الجانب من خلال جملة من النقاط المربكة:
1- تقديم إيران كعنصر فاعل «حاضنة إقليمية لتسوية ملفات محددة».
2- استمرار الضغط على العمق في مملكة البحرين.
3- تفعيل الحضور الإيراني في الجزر الإماراتية.
4- إيجاد تسوية للمصالح الإيرانية في اليمن بشكل لا يتناسب مع حجم المعاناة والتضحيات اليمنية والخليجية في مواجهة الحوثي.
خلاصة القول: حتى نستطيع فهم ومتابعة تفاصيل المرحلة العربية «الراهنة والقريبة القادمة»، يحسن ألا ننشغل بتفاصيل أطروحات «صفقة القرن»، ففيها من التكتيكات ما يشغل النظر عن أبعادها الاستراتيجية، والتي تتمحور حول الكثير من تحقيق المصلحتين الإيرانية والإسرائيلية.
* رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية – الروسية.