تحت عنوان “علام يختلفون وبماذا نختلف عنهم؟”، كتب شربل نحاس في صحيفة “الأخبار”: أي تقاعس من مجلس النواب أو أي مخالفة يرتكبها في مناقشة الموازنة وبتّها ضمن المهل الدستوريّة، يُخضعه لمساءلة دستوريّة، أول مظاهرها المساءلة أمام الشعب الذي جعله الدستور مصدر السلطات بحيث يمارس رقابته في الانتخابات العامّة النيابيّة. أما ثاني مظاهرها، فيتجسّد بصلاحية رئيس الجمهورية في الطلب من مجلس الوزراء حلّ مجلس النواب وفقاً للمادتين 55 و65 من الدستور”.
هذه خلاصة القرار الرقم 106/2017 الصادر عن مجلس شورى الدولة في تشرين الأول الماضي، رداً على مراجعة تمّ التقدّم بها مرّتين، لفرض رقابة قضائيّة على التصرّف غير الدستوري وغير القانوني للسلطة بالمال العام، وكي لا يجاز للدولة صرف أي مبلغ لا يتعلق مباشرة بتأمين الخدمات الأساسية إلى حين عودة السلطة، بشقيها الإجرائي والتشريعي، إلى احترام الدستور والقانون.
المرّة الأولى كانت في أيار 2015. حينها اعتذر مجلس الشورى عن عدم اتخاذ أي إجراء، بحجّة أن المستدعين تقدّموا بمطلب يعني جميع اللبنانيين، لا أشخاصهم بالتحديد. أمّا المرّة الثانية، فكانت بعد صدور حكم المجلس الدستوري في أيلول الماضي الذي أكّد أن “عدم إقرار موازنة عامّة سنويّة للدولة وعدم وضع قطع حساب لكل سنة يشكّلان انتهاكاً فاضحاً للدستور”، وبالتالي “لا يجوز للدولة الجباية والإنفاق إلّا بصكّ تشريعي يتجدّد سنوياً وهو بالتحديد الموازنة”.
إذاً، قرار مجلس شورى الدولة الرقم 106 يقرّ بأن تخطّي السلطتين الإجرائيّة والتشريعيّة للدستور حاصل، لكن محاسبتهما ليست بيد القضاء، بل بيد الشعب. بمعنى أوضح، يقول القضاء إن الناس إذا ارتضوا أن يكونوا ضحايا نهب متمادٍ، فليتحملوا نتائجه. لديهم الخيار بين أن يكونوا حكماً أو أن يبقوا ضحايا.
حصيلة عقد من نهب المال العام
منذ نهاية سنة 2005 حتى اليوم، كلّ الموارد التي حصّلتها السلطة كانت من دون أي سند قانوني، أيضاً كلّ الإنفاق الذي قامت به، وكلّ الاستدانة التي رتبتها كانت من دون سند شرعي. هذا لا يعني بتاتاً أن ما حصل قبل نهاية سنة 2005 كان شرعياً، لكن الموضوع يحتمل أخذاً ورداً، إذ كانت الموازنات تأتي ناقصة وبعد أوانها الدستوري. أما بدءاً من 1 شباط 2006، فقد أتى القرار الرقم 5/2017 الصادر عن المجلس الدستوري أعضاؤه معيّنون من أركان سلطة الأمر الواقع ــ نهائياً، وملزماً لجميع السلطات العامّة، وحاسماً لكلّ النقاش الذي لم يكن له مبرر أصلاً كون النص الدستوري واضحاً وضوح الشمس.
قد يقول قائل إن هذه مسائل نظريّة وإن أموراً مماثلة تحصل في بلدان أخرى. لكن ذلك غير صحيح.
في الولايات المتحدة الأميركيّة مثلاً، تتوقف الإدارات عن الجباية والإنفاق إذا لم يتم إقرار الموازنة في موعدها، فيضطر السياسيون، أمام ضغط الواقع الناجم عن خلافاتهم، إلى تخطي هذه الخلافات وإقرار الموازنة. وهذا ما حصل منذ بضعة أيام، إذ توقّفت الإدارة لبضع ساعات. وقبلها في تشرين الأول 2017 توقّفت لسبعة عشر يوماً، ومكث أكثر من 800 ألف موظف في بيوتهم، واستمرّ نحو 1.5 مليون آخرين في عملهم من دون قبض أجورهم، فيما توقف دفع الفوائد على الدين العام. ذلك أن الحكّام في الولايات المتحدة، على الرغم من جبروتهم، لا يجرؤون على التصرف بمال الناس من دون سند شرعي.
في المقابل، قد يقول آخر إن التشبيه والمقارنة لا يفيدان، ويسأل ما تأثير التصرّف غير الشرعي بالمال العام عليه؟ لنوضح عن أيّ مبالغ نتكلم.
وفقاً لمنشورات وزارة المال، وخلال 12 سنة، بين أول 2006 ونهاية 2017، تم وضع اليد على 157 ألف مليار ليرة (104 مليارات دولار أميركي)، وتم إنفاق 230 ألف مليار ليرة من أموال الناس (153 مليار دولار)، هذا من دون احتساب إنفاق مصرف لبنان وهندساته، منها 70 ألف مليار ليرة على الفوائد (47 مليار دولار أميركي) و156 ألف مليار ليرة (106 مليارات دولار أميركي) على الخدمات النافعة والتنفيعات. فيكون الإنفاق على بشاعة علله وتشوّهاته أقل مما تم وضع اليد عليه. وإذا اعتبرنا أن التنفيعات تمثل 35% من الإنفاق، وهو الحد الأدنى، يكون اللبنانيون واللبنانيات قد دفعوا إلى السلطة من أموالهم مرّة ونصف مرّة ما قدّمته لهم من خدمات عامّة. والواقع أن تخلّف الخدمات العامة، كمّاً ونوعاً، من كهرباء وماء واتصالات ونقل وتعليم… يجبرهم على التعويض عن نقصها بشراء بدائل منها من القطاع الخاص. وقد بلغت قيمة هذه المدفوعات “التعويضيّة” عن رداءة الخدمات العامّة، بحسب الحسابات الوطنيّة 41 مليار دولار. لكن ما يدفعه اللبنانيون لا يقتصر على ما يدفعونه للدولة وما يدفعون تعويضاً عن تقصير خدماتها، بل هم يتحمّلون أيضاً ما أضيف على الدين العام، لأن الدين العام ليس سوى مبالغ سوف يدفعونها في شكل مؤجّل، هم وأولادهم، معزّزة بما يضاف إليها من فوائد.
فيكون مجمل ما تكبده اللبنانيون، أفراداً وأسراً ومؤسسات 290 ألف مليار ليرة (194 مليار دولار)، أي ما يمثل، لكلّ أسرة لبنانية مقيمة، نحو 16 ألف دولار عن كلّ سنة، أو 1350 دولاراً شهرياً، ربعها فقط يترجم خدمات عامّة نافعة.
لقراءة المقال كاملا اضغط هنا
(الأخبار)