في 24 تموز عام 1923 قُرعت أجراس كاتدرائية مدينة لوزان السويسرية لتُعلنَ للعالم توقيعَ الاتّفاق بين الجمهورية التركية الفتيّة وكلّ من بريطانيا وفرنسا الذي يتضمَّن إلغاءَ معاهدة «سيفر» التي كانت أُقِرّت في 15 آب 1920 عقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وانتصار محوَر الحلفاء.
أما اتفاقية لوزان التي ألغَت معاهدة «سيفر»، فجاءت إثر انتصار الجيش التركي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك على اليونان والأرمن، والتي رافقتها مجازر كبيرة، ما أدّى الى إحدى أكبر عمليات التهجير السكاني في التاريخ. وبموجب الاتفاق الجديد، تمّ تأكيد السلطة التركية على إقليم كردستان الغربي تجاوباً مع الطلب الملحّ لرئيس الوفد التركي في المفاوضات الجنرال عصمت باشا. وبذلك وخلال فترة قصيرة لم تتجاوز الثلاث سنوات، تراجع الحلفاء بسهولة ومن دون تردّد عمّا كان إتُفق عليه في «سيفر» والذي تمحور حول إنشاء منطقة كرديّة ذات سيادة.
والأكثر خبثاً ومكراً كان موقف القنصل الأميركي يومها ليسلي دايفيس (Lesley Davis)، الذي كان قد أقنَع وجهاء منطقة ديار بكر عام 1915 بأنّ وجوده وحضوره المباشر يشكل ضمانةً قويّةً لسلامة الأكراد ولعدم حصول أيّ استهدافات ضدّهم أو نشوب اعمال عنف واعتداءات تُهدّد سلامتهم. لكنّ هذه الوعود ذهَبت أدراج الرياح مع السماح باجتياح المنطقة لاحقاً فيما هو بقيَ سالماً سليماً وبلاده عزّزت نفوذَها خلال العقود اللاحقة كما يروي التاريخ الذي لا يأخذ أبناء الشرق الأوسط بدروسه.
ومناسبة استذكار هذه المرحلة التاريخية هو ما يجري على مستوى العلاقة والتفاهمات بين الولايات المتحدة الأميركيّة وتركيا. فلا حاجة للإشارة مرّة جديدة إلى أنّ الهدف الأساسي لجولة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون هو محطة تركيا، ذلك أنّ هذه العلاقة التي شهدت تراجعاً كبيراً منذ الانقلاب الفاشل الذي حصل في تركيا وبلغ درجةً متقدِّمة مع تبنّي الجيش الأميركي القوة الكردية وما رافقها من دغدغة المشاعر التركية بإمكان إنشاء كيان كردي مستقلّ على طول الحدود مع تركيا، بدءاً من إعلان كردستان العراق دولة مستقلّة، هذه العلاقة شهدت انعطافة إيجابية مع إنهاء تيلرسون زيارته لتركيا والإعلان عن نجاحها.
وكان وزيرُ الدفاع جيمس ماتيس قد ساهم في تحضير الأجواء الإيجابية عندما أبلغ الى نظيره التركي قبل ساعات عن ضمان عدم تسليح المجموعة الكردية، أو بمعنى أوضح، عن خفض مستوى الرهان على دورٍ كردي كان يمكن أن يؤدّي الى تكريس مناطق نفوذ للأكراد في الشمال السوري.
وفيما أشارت المعلومات المسرَّبة الى أنّ تركيا تريد حضوراً أميركياً – تركياً مباشراً في عفرين وسحب الأكراد من المنطقة، كانت الأوساط الديبلوماسية تتحدّث عن أنّ تيلرسون حمل معه اقتراحاً بإقامة «منطقة آمنة» في عفرين تكون خاليةً من الأكراد والجيش التركي على حدٍّ سواء، وهو ما يعني إعادة القوات التركية الى داخل الأراضي التركية في مقابل إخلاء المنطقة من الأكراد. إضافة الى أنّ واشنطن مهتمّة بمنبج وكوباني والحسكة، وخصوصاً مع دعوة تركية الى إقامة «منطقة آمنة» بعمق 30 كلم.
لكنّ اللعبة لا تقتصر على هذا الجانب من الصورة فقط، ذلك أنّ في الميدان السوري لاعبين كثراً يملكون الحدّ الأدنى من القدرة على التأثير. وعلى سبيل المثال، فإنّ روسيا التي تلتقط كثيراً من الأوراق وفق قاعدة الاستفادة من الأخطاء التي يرتكبها الأميركيون سعت في السابق الى تقريب المسافة بينها وبين أنقرة حين كانت العلاقات التركية – الأميركية تتدهور، وهي الآن قد تعمد الى احتضان الأكراد والاستفادة منهم بعد ظهور خيبة أملهم من واشنطن جرّاء تكريس اتّفاق تيلرسون.
وفي خطوة ذكية لتجنّب إثارة تركيا، باشرت روسيا خطّتها باستمالة الأكراد ولكن من خلال دمشق التي تعرض إرسال قوّاتها العسكرية لدخول عفرين والحلول مكان الأكراد بموجب اتّفاق بينهما. خلال الاسابيع الماضية، وافقت موسكو على عملية عفرين التركية بهدف توسيع الفجوة بين أنقرة وواشنطن أكثر فأكثر، على رغم أنّها تُعارض تمدّد تركيا شمال سوريا لأنّه سيكون على حساب دورها في سوريا والمنطقة.
لذلك، منَعت موسكو أنقرة من استخدام المجال الجوّي السوري بحرّية، ووقفت تراقب تعثّر الحملة في عفرين بسبب التضاريس الطبيعيّة للمنطقة ووعورة الأرض، والتي لعبت لصالح الأكراد، وراحت تُحصي خسائر الجيش التركي وتدرس انعكاساتها على الواقع التركي الداخلي الذي يتحضّر لانتخابات الرئاسة العام المقبل.
وإيران بدورها ليست بعيدة، لا بل هي قريبة، وقريبة جداً. ويعتقد خبراء أميركيّون أنّ طهران عندما اطلقت طائرة بلا طيار في اتّجاه الأجواء الإسرائيلية من الجهة الحدودية المحاذية للأردن كانت تختبر ردّة الفعل الاميركية وليس الإسرائيلية فقط، وذلك قبيل بدء تيلرسون جولته الى المنطقة.
وهي نجحت بنتيجة المواجهة التي حصلت في وضع قيود على حركة الطائرات الحربية الإسرائيلية ضدّ سوريا. ولا شكّ في أنّ الخطوة الإيرانية عكست جرأة في انتهاج أسلوب هجومي جديد.
لكنّ أهداف اللاعبين لا تقتصر فقط على الجانب الجيوسياسي ورسم الخطوط الحمر الميدانية. فهنالك المكاسب الاقتصادية، وفي طليعتها الغاز والتحكّم بممرات السوق. ففي منطقة شرق دير الزور، حيث حقل غاز «كونيكو»، حاولت روسيا متخفّيةً خلف وحدات الجيش السوري، ضربَ قوات «قسد» التي تحمي هذا الحقل.
ردّت واشنطن بنحوٍ قاسٍ وعنيف، أولاً لرسم خطّ أحمر، وثانياً نتيجة تراجع قدرات قوات «قسد» العسكرية بعد انتقال كثير من عناصرها الى عفرين للقتال هناك، وهذا سببٌ إضافي لكي تعمل واشنطن على إقفال ملف عفرين واسترجاع المقاتلين الكرد.
وفي الانتظار عمل الجيش الاميركي خلال الأيام الماضية على تعزيز حضوره في حقل الغاز، وإرسال رسالة إلى دمشق وطهران وموسكو أيضاً بأنّ حقل «كونيكو» سيبقى تحت السيطرة الاميركية.
في المقابل، تبدو تركيا قلقةً من فقدان موقعها ممراً رئيساً للغاز الأوروبي، وهو ما يعني تهديد موقع أنقرة في النظام الاقليمي لإمدادات الغاز. لذلك مثلاً نفّذت تركيا مناوراتٍ بحريّة كان الهدف الفعلي منها عرقلة ووقف عمل شركة «ايني» الإيطالية التي تعمل على التنقيب عن مخزونات الغاز البحرية قبالة الشواطئ القبرصية. ولا شك في أنّ هذا الجانب حظيَ بمساحة مهمة من محادثات وزير الخارجية الاميركية في تركيا.
ووفق هذه الصورة المتشعّبة، يجب قراءة النزاع الدائر حول «البلوك 9» البحري بين لبنان واسرائيل والولايات المتحدة الاميركية، لا أن نضع الصورة في نطاق ضيّق ومحدود.
وبخلاف اللغة القوية التي حاول الجانب الاميركي التأثير من خلالها على اللبنانيّين، إلّا أنّ الكواليس الديبلوماسية تنقل صورة مغايرة.
فبعد رحيل تيلرسون عن بيروت، أكثر نائب مساعد وزير الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد من اتّصالاته مع مسؤولين وخبراء لبنانيين مركّزاً على سؤال واحد مركزي: «ماذا سيكون موقف «حزب الله» النهائي؟ وهل سيقبل بإنجاز تفاهم حول بلوك الغاز البحري؟».
في كل الحالات، لا أحدَ يتصوّر أنّ النتائج ستظهر قريباً. لا بل على العكس، فالضغوط الأميركية ستتصاعد، وستطلب الديبلوماسية الأميركية فتحَ جبهة ضغط لبنانية داخلية على «حزب الله» في موازاة الضغوط الخارجية. لكنّ واشنطن تُدرك أنّ لهذه الضغوط حدوداً لن يتمّ تجاوزها، وهي عدم الوصول الى الإنفجار، وبالتالي تعريض الاستقرار للخطر.
في انتظار ذلك، سيزور رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو واشنطن في الرابع من الشهر المقبل لحضور مؤتمر «ايباك» السنوي للوبي اليهودي الأميركي. وسيلتقي في الخامس من آذار الرئيس الاميركي دونالد ترامب، في وقت يغرق ترامب ونتنياهو على حدٍّ سواء في أزماتهما الداخلية، وهو ما يلزمهما التعاضد والتكاتف ومساعدة بعضهما لبعض ورفع الصّوت في وجه «عدوّ» مشترك، هو إيران.
لكنّ الخطاب السياسي شيء وترتيب لائحة المصالح شيء آخر، ولهذا الامر منطقه الآخر والمختلف.
(الجمهورية)