صريحةٌ الخزانة الأميركية في إعلانها سياسة تقويض «حزب الله» والتعاون بينها وبين السلطات الإقليمية واللبنانية للتأكّد من أنّ «حزب الله وقاسم سليماني لا يمكنهما الوصول للدولار الأميركي»، كما جاء على لسان مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب، مارشال بيلينغسلي. فاستراتيجيّة الرئيس دونالد ترامب عازمة على اتّخاذ كلّ الإجراءات الضروريّة لمحاصرة «حزب الله» أينما كان في إطار احتواء النفوذ الإيراني الإقليمي وكذلك كجزءٍ من زيادة الضغوط على روسيا عبر شركائها في سوريا. ولقد أبلغ بيلينغسلي المصرفيّين أثناء زيارته بيروت هذا الأسبوع أنّ هذا «عهد» جديد تعتزم فيه إدارة ترامب «تطبيق القوانين باستباقيّة وبصرامة» عكس ما كانت عليه إدارة أوباما في «عهد ارتخائها»، كما نقلَ مصدرٌ مطّلِع عن مساعد وزير الخزانة الأميركية. وبِحسب هذا المصدر الذي حضَرَ بعض الاجتماعات، أبلغَ الزائر الأميركي مستَمعيه أنّ عليهم أن يتوقّعوا سماع أسماء جديدة ومهمّة لمؤسّسات وأفراد سيُدرجون على قائمة «OFAC، مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» الذي يُصنّف ويكشف الجِهات المتعاونة مع الإرهاب. أبلغهم أنّ هناك «منهجيّة» بالغة الجديّة تَعتمدها الإدارة الجديدة في مكافحة تمويل «حزب الله» من أفريقيا إلى لبنان، وأنّ واشنطن ستكون «أكثر فضوليّة» في تعاملها مع البنوك اللبنانية والبنوك الأجنبيّة في لبنان. طالَبهم بمطالب طبيعتها شبه «جراحيّة» تُفيد بأنّ الضغوط الأميركية على لبنان والمنظّمات في سوريا وعلى سوريا «جديّة ولا عودة عنها»، كما نقل مصدرٌ آخر مطّلع على سياسات الخزانة الأميركية الآتية الى المنطقة.
تصريحات بيلينغسلي العلنيّة كافية للتعرّف إلى ماذا في ذهن إدارة ترامب لناحية الرّبط بين إجراءاتها نحو «حزب الله» الذي تُصنِّفه واشنطن «إرهابياً»، وبين استراتيجيّتها الأوسع نحو الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تُشير إليها بلُغة «النظام» في طهران. كافية للاستنتاج أنّ الخزانة الأميركية هي من أقوى الوزارات في تنفيذ السياسات الاستراتيجيّة. كافية في وضعها النقاط على الحروف لجهة تقاعس إدارة أوباما وتحجيمها هذه الوزارة لغايات سياسيّة لها علاقة بهَوس أوباما بالاتفاقية النوويّة مع إيران كأولوية قاطعة بأيّ ثمن- ولذلك تسامَح وغضَّ النظر عن نشاطات «حزب الله». واضحة في كشفها عن استراتيجيّة مضادّة لإدارة ترامب متعدِّدة الشركاء وواسعة النطاق.
قال بيلينغسلي إنّه «يجب ألّا يتمكّن «حزب الله» من الوصول الى التمويل الإيراني لتنفيذ أجندة هذا النظام. ولدينا شراكة ممتازة مع السعودية في ما خصّ محاربة تمويل الإرهاب وغسل الأموال. وهذه هي الحال بالنسبة لعلاقاتنا مع السلطات اللبنانيّة والقطاع الخاص والأجهزة الأمنيّة. عقوباتنا تهدف الى حماية النظام المالي العالمي وأيضاً لإحداث تغيّرات في السلوك. وتعاملنا مع هذه القضية في لبنان يبدأ من المصارف التي تشكّل قلب الاقتصاد». أضاف: «نحن في الولايات المتحدة الأميركية معنيّون بالنشاط الإيراني في المنطقة. وطهران عازمة على الإحاطة بالسلطات العربيّة وتقويض اقتصادها. نحن قلقون جداً إذ إنّ تمويلها «حزب الله» هو لهذه الأهداف. ونحن هنا للعمل مع السلطات اللبنانية لضمان أنّ هذا التنظيم الإرهابي لن يتمكّن من أذيّة قطاع المصارف».
مارشال بيلينغسلي حرص كلّ الحرص على الفصل بين «حزب الله» وبين الطائفة الشيعية في الإجراءات الأميركية، مؤكّداً أنّ «قانون منع التمويل الدولي لـ«حزب الله» لا يستهدف الطائفة الشيعية وإنّما النشاطات المالية للحزب في جميع أنحاء العالم». تعمّد الإشارة الى ما قاله الأمين العام لـ «حزب الل»ه السيد حسن نصرالله بأنّ إيران تُموّله سنوياً و»أنه يتقاضى راتباً شهرياً من طهران».
المسؤولون اللبنانيّون في السلطة وفي القطاع الخاص أكّدوا للزائر المهمّ الاستعداد للتعاون، شاكرين له دعمهم للبنان ولقطاع المصارف. إلّا أنّهم – أو بعضهم – حذّروا من إفراط إدارة ترامب في تشديد أواصر الضغط على «حزب الله» إلى درجة «دفعه ليكون مؤذياً» بحسب قول أحدهم، مشيراً الى «خصوصيّة لبنان» التي كانت تُراعيها الإدارة السابقة مراعاةً دقيقة إمّا خوفاً من الانتقام والتوريط أو صيانة لعلاقاتها مع طهران.
السؤال الذي أقلقَ البعض هو حول ما تقصده إدارة ترامب عندما يؤكّد نائب وزير الخزانة الأميركية تكراراً أنها «مختلفة» عن سابقتها. ما هي حدود الاستراتيجية الجديدة في إطار الحرص الأميركي على «الاستقرار الأمني» في لبنان؟ فالنأي بالقطاع المصرفي والاقتصاد يَصطدم بنفوذ وأجندة «حزب الله». وما يُلوّح به البعض هو أنّ أمام كل هذه الضغوط الجدية للإدارة الأميركية، لن يرضخ «حزب الله» وإنما سيُقاوم ويتحدّى هذه الضغوط تحت عنوان: أنا أملك مفاتيح الاستقرار أو اللاإستقرار في لبنان. فخذوا علماً. وكونوا حكماء وحصفاء.
الاستراتيجية الأميركيّة لا بدّ حسبت حساب مثل هذه التطوّرات، لكنّها ماضية في سكّتين متوازيَتين عبر وزارتي المالية (الخزانة) والعدل، وذلك من أجل تطويق ومحاصرة «حزب الله» في كل انحاء العالم مالياً وقانونياً، بعقوبات وبإجراءات محاسبة ومحاكمة. بدأت واشنطن الضغوط على أصدقائها الأوروبيّين وعلى الدول الأفريقية، ولقد بادرت بريطانيا الى التجاوب. إنما نقطة الانطلاق هي لبنان الذي عادَ إلى واجهة الاهتمام الأميركي بقوّة بعدما كان بالأمس القريب هامشياً على الرادار الأميركي.
أسباب استعادة لبنان موقعاً مهمّاً في الاستراتيجية الأميركية متعدّدة، بينها ما يدخل في العلاقة مع السعودية وانسحابها التكتيكي من لبنان. وبينها ما يتعلّق بتقويم الفريق «الرابح» في إدارة ترامب أن لا مجال للصلح والتفاهم مع الروس لأنّهم أثبتوا أنّهم ليسوا جديرين باعتبارهم شريكاً أميناً. فلبنان «بات الآن تحت المجهر وبقوّة»، حسب تعبير مراقب لتطوّر السياسات الأميركية نحو المنطقة «ولقد توضّحت الأجندة للسنة المقبلة في المنطقة».
فالضغط على لبنان هو جزء من خطط المعسكر الذي قرَّر أن لا مجال لتقريب وجهات النظر مع روسيا بالذات في شأن أدوار إيران وحلفائها في المنطقة، وسوريا خصوصاً. هذا المعسكر، الذي يضمّ مستشار الأمن القومي هربرت مكماستر ووزير الدفاع جيمس ماتيس ورئيس أركان البيت الأبيض جون كيللي، باتَ أكثر قوّة بعد أفول نجم ستيف بانون بسبب كتاب «نار وغضب» للمؤلف مايكل وولف. ثم انّ ما نشَرَته «بوليتيكو» حول تقاعس باراك أوباما وتهاونه مع «حزب الله»، زادَ من عزم هذا المعسكر لاتّخاذ قرار مضاعفة التضييق على «حزب الله» والعقوبات على إيران وتطويق روسيا عبر البوّابة السورية. فهذا قرارٌ استراتيجي.
القرار الأميركي بتطويق روسيا وإيران لن يتوقّف عند لبنان وسوريا. ففي العراق محطّة تطويق إيران عبر إجراءات مماثلة كتلك التي تُطبَّق على «حزب الله» في لبنان تستهدف «الحشد الشعبي». وفي إيران نفسها إنّ «الحرس الثوري» مُستهدف في الداخل الإيراني كما في مواقع انتشار «الحرس الثوري» من سوريا إلى اليمن. وبحسب المصادر، إنّ وفوداً مماثلة كتلك من الخزانة الأميركية ووزارة العدل ستتوجَّه الى العراق، وهناك إجراءات في صدد الإعداد والتنفيذ ضدّ «الحرس الثوري» في المحافل الدولية، لا سيّما الأوروبية. هذا الى جانب تطويق «حزب الله» وانتشاره في أفريقيا وفي المثلّث المهمّ في أميركا اللاتينيّة ما بين البرازيل وكولومبيا والأكوادور، الذي يُشير إليه البعض على أنّه «الضاحية اللاتينية»، إشارة الى الضاحية الجنوبية من بيروت التي تَقع تحت سلطة «حزب الله».
المصرفيّون اللبنانيّون يَعتبرون الرسالة التي وصَلتهم من الخزانة الأميركية رسالة تعاون وحرص على القطاع المصرفي، وليس رسالة مواجهة واستنفار. يَعتبرون العلاقة بين الطرفين علاقة شريكين صديقين وليس علاقة بين أعداء. يعتقدون أنّ واشنطن تنطلق من لبنان في استراتيجيّة تطويق «حزب الله» إنّما محطاتها الأساسية هي اوروبا وأفريقيا واميركا اللاتينية، وبالتأكيد إيران.
إنما لا أحد من المصرفيّين أو من السياسيّين يَسترخي بعد الزيارة الصريحة لمارشال بيلينغسلي، لا سيّما أنّه تحدّث ليس فقط بلغة مكافحة الإرهاب وإنّما بلغة مكافحة المخدّرات ومراقبة الإنتخابات النيابية القادمة. عندئذٍ، وعلى أساس نتائج الإنتخابات، ستَّتخذ إدارة ترامب قرارها النوعي بناءً على إمّا إذا كان «حزب الله» يتمتَّع بقاعدة شعبيّة وانتخابيّة تغلّفه لحمايته، أو إذا أدرَكت قاعدته الشعبية أنّه بات في موقع الملاحقة والمطاردة والمحاسبة والمحاكمة. الواضح، حسب قول أحد كبار المصرفيّين، أنّ الرسالة الأميركية التي سمِعها لبنان جليّة تماماً هي: مهما تطلّب الأمر ومهما كلَّف وكيفما كان، إنّ قرار إدارة ترامب هو تطويق ومعاقبة «حزب الله». فالقرار حازم وحاسم، وهو قرار استراتيجي إقليمي وعالمي ينطلق من محطة لبنان. أولى الإجراءات من الساحة اللبنانية التي طالبت بها واشنطن هي إغلاق المصرف التجاري السوري اللبناني في بيروت. عنوان هذه الرسالة واضح ظاهرياً إنما فحوى الرسالة ليس موجّهاً فقط الى سوريا وإيران، وإنّما هو موجَّه بالدرجة الأولى الى روسيا.
راغدة درغام – الجمهورية