هل كان مرسيل غانـم هو الذي يمثُلُ أمام قاضي التحقيق فـي المحكمة أمس ، أو هي الحرية . . .؟
والمحكمة التي تحاكم الحرية، هل هي تمارس العدالة أو الإرهاب العدلي.؟
وهل المطلوب أن يكون الإعلام الحرّ في لبنان مشابهاً بالعامل الضاغط لنظام ديكتاتوري نازي ، حرية الرأي فيه خاضعة لأوامر الفوهرر، أو لصحافةٍ نابوليونية يجعلها الأمبراطور تحت رحمة مدير الشرطة . . .؟
وهل المطلوب أن تكون وسائل الإعلام في لبنان محتكرة بيد السلطة، لتشكل مع الشرطة والجيش الدعامة الصلبة للنظام على غرار الأنظمة البوليسية وأخواتها. . .؟
لو أن مرسيل غانـم يشنّ إعلاماً هو أقرب الى الحرب في أيام السلم ، ويسخّر منبره الإعلامي ترويجاً لأغراض دولة خارجية ، أو لمشيئة خارجية ولمصالح خارجية على حساب مصلحة لبنان. . . !
ولو أنه جعل من المنبر الإعلامي متراساً مسعوراً في الهواء لقصف الأخصام المناوئين على الأرض . . . !
ولو جعل حرية الرأي سلعة في سوق النخّاسين لدسِّ سُـمٍّ سياسي أو حزبي أو مذهبي ، أو للمتاجرة بالمال السياسي على قاعدة لكل خبرٍ سعرهُ . .!
لصَّحت عليه إذ ذاك مذكرة الإتهام ، ولما التفَّت حوله الأقلام ووسائل الإعلام واحتـضنه تأييد الرأي العام ، هي براءته التي جعلت منه قضية ، وهي نفسها قضية الحرية .
في القرن الواحد والعشرين ، ومع بلوغ وسائل التواصل الإجتماعي حدَّها الأقصى من الإزدهار والإنتشار ، هل هناك من يتجرّأ بعد ، على ممارسة الغباء الإيديولوجي التوتاليتاري ، حيث يتحوّل الإعلامي الى بوقٍ يعزف أناشيد السلطة الطاغية في هيكل الحزب الواحد «المقدس»، ويمـجّد أصنام الرؤساء والزعماء ويقبّل ظلَّهم على الأرض . .؟
إنّ هذا النمط الكاتـم للصوت والكابح للحرية هو الذي كان وراء سقوط الإتحاد السوفياتي ، ووراء ما كان من ربيع عربي تخضّبت فيه الأنظمة والشعوب معاً ، بأنهارٍ من الدم .
وهو السبب نفسه الذي أدّى الى الثورة الفرنسية في القرن السادس عشر ، والى الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان سنة 1889 حين أعلن الشاعر الفرنسي فرنسوا دي ماليرب Malherbe «أن الصحافة هي التي تستطيع أن تحوّل العصر المظلم الى عصر ساطع يتمكّـن فيه كل مواطـن أن يخاطب الأمـة بصـوت المطبعة. . .»
إنه صوت المطبعة اللبنانية الأولى في الشرق ، منذ سنة 1610، وهو الصوت الذي أبى التلعثم متمرداً على أعظم أمبراطورية عثمانية ، وهو الذي عممّ الإعلام عريقاً في العالم العربي ، فراجَتْ الكلمة على صفحاته انتشاراً ، حتى كان في مصر وحدها أربع وعشرون جريدة ومجلة أنشأها اللبنانيون.
هذا الإعلام يحمل اليوم مسؤولية تاريخية توازي في أهميتها رسالة لبنان الحضارية الى العالمين، ومثلما هو كان المتنفّس الأبرز لحرية الرأي العربي المكبوت، فهو يشكل اليوم الحاجة الملحّة لإنقاذ الأنظمة العربية والشعوب العربية من الظلمة الغامضة والقاتلة، لأن الأنظمة التي تعاني الإختلال الوظيفي والقلق المصيري، تصبح الممارسة السياسية فيها أقرب الى الديكتاتورية منها الى الديمقراطية ، والوجه الآخر لعدم وجود ديمقراطية هو الإرهاب، والوجه الآخر لعدم وجود إرهاب هو حرية الصحافة والإعلام.
يقول توماس جفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة: «عندي أن أعيش في بلاد ديمقراطية فيها صحافة وليس فيها قانون أفضل من أن أعيش في بلادٍ فيها قانون وليس فيها صحافة . . .»
وعندنا، وفي بلادنا ، في لبنان الديمقراطي لم يبقَ ما يعبَّـر عن الديمقراطية: لا النظام ولا الدستور ولا القانون ولا الأحزاب ولا المممارسة السياسية ولا الحقوق المدنية ولا قوانين
الإنتخاب. . .
بقيت لنا فيه الحرية ، حرية الإعلام والصحافة ، فاتركوها حـرّةً إذاً. . . لكي تحرركم .