“إذا الظلم بيربح جولة، الحرّية قدر الأحرار”… كلمات غنّاها الزميل مارسيل غانم في قلبه للشاعر طلال حيدر، وهو يخطو عتبة قصر العدل، مسترجعاً أمانةً ثمينةً في باله، صوَراً لرفاق القلمِ، من ألمِ الشهيدة الحيّة د. مي شدياق، إلى قسَم الشهيد جبران تويني ومقالات الشهيد سمير قصير ومَن سبقوهم في الدفاع عن الحرّيات. أمس كان اللبنانيون عموماً والجسم الإعلامي تحديداً على موعد مع الدفاع عن سقفِ الحرّيات في لبنان. أمس خرج غانم من قصر العدل في بعبدا “أكثرَ استشراساً مِن أجل الحرّيات العامة، من أجل قضايا اللبنانيين، من أجل فضحِ ملفّات الفساد في البلد”، وفق ما أكّده لـ”الجمهورية”.
نادت الحرّية الإعلامية فلبّى الصحافيون نداء الواجب منذ الصباح الباكر، إذ احتشدوا تحت مظلّاتهم في وقفةٍ تضامنية أمام قصر العدل في بعبدا، غيرَ آبهين للعواصف الرعدية ولا للسير المتوقّف وسط التدابير الأمنية المشدّدة، مردِّدين: “اليوم مارسيل، يمكِن بكرا نِحنا”، وذلك بالتزامن مع مثول غانم أمام قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان نقولا منصور.
في التفاصيل
“بالصفّ يا شباب، الهويّات بالأيدي، المفتاح والتلفون ع الطاولة”. وسط التعليمات الروتينية الصارمة انطلقَ العمل داخل قصر العدل، فيما السؤال نفسُه على ألسِنة الموظفين: “خير.. شُو في اليوم؟ ليش العجقة”.
أمّا في خارج القصر فمِثل كرةِ ثلجٍ بدأت تكبر حلقةُ السياسيين، المحامين، الصحافيين المحليين والأجانب، وقفوا يتبادلون أطراف الكلام الشاجب لاستدعاء غانم، سواء كانوا من المعجَبين به أم لا، أو حتى من منافسيه.
في الكواليس…
قبل اقتراب موعد الجلسة، وبينما كان غانم يهمّ باستلام الدرج المؤدّي إلى مدخل قصر العدل، اقتربَت والدة الشهيد بيار الجميّل جويس منه مقدِّمةً له وردةً بيضاء والدعمَ المعنوي، فيما عينا غانم كانتا تلمعان تأثّراً.
كان من المقرّر أن تبدأ الجلسة المخصّصة للاستماع إلى غانم عند العاشرة صباحاً، ولكنْ سبَقها، قبل ربعِ ساعة، جلسة خاصة مقفَلة في مكتب القاضي منصور، ووفقَ ما علمت “الجمهورية” ضمَّت بعضَ الوزراء والنواب المحامين، الذين جلسوا بشكل دائريّ يحتسون القهوة ويتحدّثون ضِمن مداخلات متنوّعة محورُها عملُ القضاء وواقع الحرّيات في لبنان، وعن دور وزير العدل، وقد أبدى منصور كلَّ لطافةٍ.
وأبرزُ مَن كان حاضراً: القاضي منصور، مارسيل غانم، بطرس حرب، ملحم رياشي، فريد هيكل الخازن، نديم الجميّل، سامي الجميّل، دوري شمعون، جويس جميّل، جان فغالي ومحاميه أشرف صفي الدين.
وعند العاشرة وخمس دقائق بدأ السياسيون بالانسحاب إلى خارج المكتب وانضمّوا إلى المحامين والصحافين الذين غصّت بهم الممرّات المؤدية إلى مكتب القاضي منصور.
في هذا السياق، أعربَ النائب نديم الجميّل عن أسفه لوضعِ الإعلام في لبنان، قائلاً في حديث لـ”الجمهورية”: “اليوم ننعى الإعلام في لبنان حيال الأسلوب الذي تمّ استخدامه، وبصرف النظر عمّا ستؤدي إليه الجلسة، نالت الحرّية الإعلامية ضربةً قوية موجعة، ونحن متضامنون مع الصديق غانم”.
من جهته، قال النائب فريد هيكل الخازن، “نصرّ على استقلالية القضاء وعدمِ التدخّل السياسي به، لذا نعتبر أنّ قضية مارسيل غانم ليست شخصية، إنّما تعني كلَّ لبنانيّ حر”.
وأوضَح في حديث لـ”الجمهورية”: “عوضاً من أن نكون شاهدين على محاكمة الفاسدين ومن يَهدرون أموالَ البلد ويفرّطون في ثرواته ويَنهبون مال الشعب، أتينا نتضامن مع الحرّيات الإعلامية”، معرِباً عن خشيته من أن يكون “ما يحصل بهدف تقويض الإعلام في لبنان ومن أجلِ إسكات الأفواه الإعلامية المحترَمة”.
الدفوع الشكلية
لم تدُم جلسة غانم أكثر من ربع ساعة، قدَّم خلالها حرب مذكّرةَ الدفوع الشكلية، التي تحمل تاريخ 18/12/2017، والتي كان القاضي منصور قد رفضَ استلامها لورودِها بعد انقضاء المهلة التي كان قد حدّدها للزميل جان فغالي، ولعدم حضور غانم شخصياً. وقد قبل منصور المذكّرة، وقرّر إحالتها للنيابة العامة الاستئنافية لاستطلاع رأيها فيها. بعدها، أرجَأ الجلسة إلى 2 شباط 2018.
غانم لا لتدجين الإعلام
ما إن انتهت الجلسة حتى خرَج غانم إلى الساحة أمام قصر العدل لملاقاة المتضامنين معه. وفي هذا السياق قال غانم لـ”الجمهورية”: “اليوم محطة أساسية على طريق طويل في الدفاع عن حرّية التعبير والإعلام في لبنان، للأسف يحاول البعض تحويله إلى سجن”.
وأضاف: “المعركة كبيرة، طويلة، مستمرّة ويومية في سبيل الدفاع عن الحرّية. وفي السنة الأولى من عهد الرئيس ميشال عون نلمس محاولات كثيرة للنَيل من حرّية التعبير، لذا لن نسكت، لأنّ من يبدأ في حرّية التعبير قد ينتقل إلى موضوع آخر”، داعياً الإعلاميين للتكاتف، “اليوم أنا وغداً قد يكون أيّ صحافي آخر، فقد يصطادون أيَّ شخص، لذا علينا كلِنا المشاركة في هذه المعركة”.
ووجَّه غانم رسالة إلى السلطة السياسية قائلاً: “ممنوع التدخّل في القضاء، ممنوع تحويله إلى أداة طيِّعة في يدك، وممنوع للسلطة السياسية أن تُمارس الكيدية حيال أشخاص سلّطوا الضوء على فشلٍ وفسادٍ مستشرٍ”. وتابع مستغرباً: “قبل أن نبدأ بتسليط الضوء على أخطائهم حاوَلوا اصطيادَنا، كيف بالحري حين نفتح ملفّاتهم، خصوصاً قرابة الانتخابات النيابية.
كانوا يُحاولون تدجينَ الإعلام وإسكاتَه قبَيل الانتخابات، حاوَلوا إخضاعَنا، والمؤسف أنّهم قد حاوَلوا مِن مكان قد يُوجعهم أكثرَ في ما بعد”، مؤكّداً “أنا لم أتغيّر، ما مِن سلطة سياسية تُخيفنا، لم نقُم بأيّ شيء ضدّ القضاء ولم نتحدَّه، كلُّ ما في الأمر أنّ هناك زَجّاً للقضاء مِن قبَل السلطة السياسية من خلال ممارسات غير قانونية تصَدّينا لها”.
أمّا عن التهمة التي يُلاحَق بها، فقال: “إعتبَروا أنّني لم أحضر في المرّة الأخيرة، أعتقد أنّ الهدف هو إيصالي إلى ما أنا فيه، غريب كيف يتحوّل المرء في ظرفِ أسبوع من شاهد إلى مدَّعى عليه، فقط لأنه لم يحضر! كذلك كان الأساس في نظرهم الادّعاء عليّ بتهمةِ تحقيرِ رئس الجمهورية، وهذا لم يَحدث، أتحدّى أيَّ أحد أن أكون قد حقّرتُ القضاء من خلال مقابلتي”.
الذكرى الأجمل في بعبدا!
ماذا بعد خروجك من قصر العدل؟ يجيب غانم: “صرتُ أسيرَ ثقة الناس ومحبتهم لي، جدّدوا ثقتهم بي، لذلك عليّ أن أكون أكثرَ استشراساً مِن أجل الحرّيات العامة، من أجل قضايا اللبنانيين، من أجل فضحِ ملفّات الفساد في البلد، وهذه مسؤولية حمّلني إيّاها اللبنانيين”.
ويتوقّف غانم متأثّراً عند “وردة الجميّل” قائلاً: “أمّ شهيدٍ قدَّمت لي وردةً، هذا أجملُ وسام على صدري، أجملُ ذكرى أحتفظ بها على صدري، السيدة جويس أوصتني بأن أكون أميناً لكلّ رسالة الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الحرّيات”.
بيار الضاهر
رئيس مجلس إدارة المؤسسة اللبنانية للإرسال الشيخ بيار الضاهر الذي لم يُفارق غانم للحظة، أعرَب لـ”الجمهورية” عن أهمّية المعركة، قائلاً: “المسألة لا تتعلّق فقط بمارسيل غانم أو بمحطة المؤسسة اللبنانية للإرسال. إنّما هناك ميلٌ لدفعِ البلد في اتّجاهٍ آخر عكسَ مسار الحرّية والحق”.
وأضاف: “لا أحمِّلُ القضاءَ المسؤولية إنّما السلطة السياسية التي باتت تُلهي القضاءَ بأمور بسيطة صغيرة، في وقتٍ أمام القضاء قضايا كبرى ينشغل بها”. وتابع: “نأسف لوجود انتقائية، واستنسابية في التعاطي، على طريقة “واحد بيخِصّنا، ما منقرّب صوبو، وآخر ينتمي إلى خصمِنا السياسي سنكون له بالمرصاد”.
مَن المستفيد بتضييق الحرّيات؟ يجيب الضاهر: “ساد تفكيرُ كمِّ الأفواه منذ أيام ستالين، فيما نحن دخَلنا العام 2018 عامَ الحرّيات والتكنولوجيا وسط ثوراتٍ في العالم العربي غيّرَت معالم المنطقة، ولا يزالون يتحدّثون بطريقة، “أنا بدّي إمنعَك تقول هيدا أو هيداك”.
حرب
أمّا حرب فقال: “عُدنا إلى الخط السليم، ونُراهن على أخلاقية القضاء ليبقى الأحرار أحراراً ويتمكّنَ الجميع من التعبير عن مواقفهم من دون ملاحقة”، معتبراً أنّ هناك “خطة سياسية لِكمِّ الأفواه، ومارسيل والـ أل.بي.سي. وسيلة لتمرير الرسالة”. وأكّد أنّ “لبنان سيبقى بلدَ الحرّية”.
ناتالي اقليموس – الجمهورية