هناك كلام كثير يتردّد في الكواليس، منذ أن صدر تقرير دائرتي الإحصاء اللبنانية والفلسطينية عن عدد الفلسطينيين في لبنان. ربما يكون رقم الـ500 ألف أو الـ600 ألف أكبر من الواقع، ولكن، ليس الجميع مقتنعاً بأنّ الرقم 174 ألفاً ينطبق تماماً على الواقع!
في أول كانون الثاني 2014، أصدرت وكالة «الأونروا» تقريراً عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فحدّدت عددهم بـ 483.375 نسمة. وبعد عام، في أول كانون الثاني 2015، أصدرت تقريرها التالي، وفيه أصبح العدد 493.134 نسمة، أي بزيادة نحو 2% سنوياً.
ويعني هذا النموّ أنّ العدد المفترض يجب أن يكون قد أصبح اليوم، بعد عامين تماماً، نحو 515 ألف نسمة. ولطالما كانت الدوائر الرسمية اللبنانية، المعنيّة، مقتنعةً بأنّ العدد يقارب الـ400 ألف، أي إنه أقل من رقم «الأونروا» بنحو 100 ألف، لأنّ هناك أعداداً من الفلسطينيين غادروا تباعاً إلى بلدان أخرى.
ولكن، فوجئ الجميع بالعدد الصادر قبل أيام عن إدارة الإحصاء المركزي اللبناني والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وبإشراف لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني، وهو 174 ألف نسمة فقط، ما يدفع إلى السؤال فوراً: هل يُعقَل أن يكون التفاوت في الأرقام مع «الأونروا» شاسعاً إلى هذا الحدّ، وكيف يكون ذلك؟
المدافعون عن التقرير الصادر حديثاً يقولون إنّ «الأونروا» تسجّل اللاجئين في لبنان، لكنها لا تسجّل الوفيات غالباً، ولا المهاجرين. ولذلك ينمو العدد في سجلّاتها ولا يطرأ عليه تراجع، فيما هناك في الواقع موجات من الهجرة خصوصاً خلال الأزمات والحروب (حرب 1975، اجتياح 1982 وحروب المخيمات على اختلافها).
هذا الكلام منطقي. ولكنه لا يكفي للإجابة عن الأسئلة التي أحاطت بملف النازحين الفلسطينيين في لبنان خلال العامين الأخيرين نتيجة تراجع خدمات «الأونروا».
فمع مطلع العام 2016، بدأ يرتفع مستوى التوتر بين «الأونروا» واللاجئين الفلسطينيين في لبنان بسبب تجميد المنظمة عدداً من أنشطتها، وخصوصاً لجهة التمويل. وهذا ما أثار نقمة عليها تجلّت بتظاهرات شعبية فلسطينية أمام مقرّات المنظمة و»الإسكوا» في بيروت.
الفلسطينيون يتّهمون المنظمة بأنها تقلّص خدماتها قصداً، سعياً منها إلى إقفال مكاتبها تدريجاً، ليصبح اللاجئون الفلسطينيون، على غرار النازحين السوريين، من اختصاص المفوّضية السامية للاجئين. وهذا الأمر يحمل معاني بالغة الأهمية لأنه يعني عملياً سحب الورقة الدولية الوحيدة التي تعترف بحقّ الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم.
«الأونروا» هي الشاهد الأخير على وجود قضيةٍ لشعبٍ هو الشعب الفلسطيني، وأيُّ تلاعب بمصير المنظّمة يعني التلاعب بحقّ هذا الشعب في العودة إلى دياره.
وهناك إشارات كثيرة إلى أنّ إسرائيل تعمل على تصفية هذه المنظمة ليذوب اللاجئون الفلسطينيون في إطار مفوّضية دولية تُعنى بجميع اللاجئين في العالم، فتكون قد تخلّصت من هذا «الشاهد المزعج» نهائياً.
كل إشارة تتعلّق اليوم باللاجئين الفلسطينيين ينبغي النظر إليها بدقّة والتبصُّر في خلفياتها. فالضغط الإسرائيلي لإقرار الاعتراف دولياً بالقدس عاصمة لإسرائيل يمكن اعتباره مدخلاً إلى مفاوضات شاملة ونهائية حول الملف الفلسطيني، تريد منه إسرائيل تحقيق هدفها الأساسي، وهو تصفية القضية الفلسطينية.
لهذه الغاية، ووسط انشغال العرب بحروبهم الداخلية ومعارك الدفاع عن الأنظمة، تستعد إسرائيل للضربة الكبرى، أي تصفية القضية الفلسطينية لا حلّها.
وأبرز نقاط التصفية هي:
أولاً: القدس عاصمة إسرائيل.
ثانياً: الاعتراف بيهودية الدولة هو الأساس للحصول على الجنسية.
ثالثاً: لا مجال لدولة فلسطينية في الضفة الغربية، بل هناك شبه دولة في غزة وبعض أجزاء من سيناء يجري استئجارها أو مقايضتها مع مصر.
رابعاً: إنكار حقّ اللاجئين فلسطينيي الشتات في العودة إلى أرضهم. وهناك أفكار يتم تداولها تقضي بتوزيع هؤلاء كالآتي:
– جزءٌ منهم يتمّ تشجيعه للبقاء في الدول التي يستوطنها منذ عشرات السنين، في أوروبا وأميركا.
– جزءٌ منهم يمكن تشجيعه على المجيء إلى غزة، وسيناء خصوصاً، حيث يتمّ تحضيرُ مشاريع إقتصادية ضخمة يموّلها أثرياء العرب.
– جزءٌ منهم يجري توزيعه في دول عربية ليست حتى اليوم من دول الشتات الفلسطيني.
– جزءٌ منهم يجري توطينه في البلدان العربية، حيث هو حالياً، وخصوصاً الأردن وسوريا ولبنان. وهنا يمكن التفكير في ما ينتظر الفلسطينيين والدول العربية الثلاث في المرحلة المقبلة.
إذاً، في ظلّ هذه المعطيات، يصرّ البعض على طرح مجموعة من الأسئلة حول العدد الأخير للاجئين الفلسطينيين في لبنان، الصادر عن دائرتي الإحصاء اللبنانية والفلسطينية:
– هل تمّ التدقيقُ فعلاً في العدد؟ وهل وصل الفريق العامل إلى كل مكان يوجد فيه فلسطينيون في لبنان، في المخيمات وخارجها؟ ألم تكن هناك أماكن «يضيع» فيها الفلسطينيون ويصعب «العثور عليهم» أو ممنوع العثور عليهم لأسباب أمنية أو لغير ذلك؟
– يمكن أن يكون العدد الذي تحدده «الأونروا» أدنى من العدد الحقيقي، بناءً على التبريرات المعلنة، أي الهجرات. ولكن، هل يجوز أن يكون الفارق نحو 341 ألف نسمة (515 ألفاً ناقصاً 174 ألفاً) أي نحو الثلث؟! وكيف للناس أن يقتنعوا بأنّ هذا الرقم هو الصحيح وأنّ الأرقام التي كانت تعلنها المنظمة الدولية الوحيدة المعنيّة بالملف منذ نشوء أزمة اللجوء لم تكن تعبِّر عن الواقع بدقّة؟!
وفي الخلاصة، هناك أسئلة ذات أبعاد سياسية عميقة لا بدّ من طرحها استتباعاً:
• هل صحيح أنّ لبنان مجبر على توطين جزء من الفلسطينيين الموجودين على أرضه، مقابل السماح له بالاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني؟
• هل صحيح أنّ توطين الفلسطينيين هو أحد الشروط الدولية للسماح بتركيب السلطة السياسية القائمة حالياً وحمايتها؟
• هل صحيح أنّ التقارب بين القوى المتباعدة سياسياً حول ملفات ومسائل معيّنة ينطوي أيضاً على تفاهمات لإمرار الملف الفلسطيني؟
• هل صحيح أنّ هذا الأمر عاملٌ مساعد في حسم الأزمات السياسية التي تنشأ في لبنان؟
• وتالياً، هل صحيح ما تردّد نقلاً عن أوساط دولية من أنّ توطين جزءٍ من الفلسطينيين في لبنان هو الشرط اللازم تحقيقه للسماح للبنان بإخراج ثروته النفطية بعد تعثّر لسنوات؟
وهل سيقال للبنانيين: لم تعودوا في حاجة ماسة إلى أموال المساعدات. لقد خففنا الضغط عنكم كثيراً. ولم يعد عندكم نصف مليون فلسطيني بل 174 ألفاً، ويكفيكم النفط والغاز لتستوعبوا الحصة المطلوبة من اللاجئين… فلا بأس في أن يبقى هؤلاء في دياركم ويذوبوا في مجتمعكم!
البعض يضيف: ربما هناك مقايضات ورشاوى لكل جهة وفئة لكي توافق على التوطين المبطَّن واقعياً، بعد تذويب الرقم صُورياً. ويحصل كل طرف على شيء ما، من ضمن صفقة تشمل التوطين في مناطق معيّنة مناسبة لذلك وفي لبنان ككل.
في بلدٍ تُدار أموره في كواليس الداخل والخارج وتُحاكُ فيه الخطط في الخفاء، تبدو الأسئلة مشروعة. فهل من جواب مُقْنِع عن هذه الأسئلة؟
(الجمهورية)