شهر العسل بين أركان الحكم لم يدم طويلا، وبعدما «ذاب ثلج» أزمة الاستقالة «بان مرج» الخلافات الكامنة والنائمة والصراع على السلطة.
الرئيس ميشال عون الذي أغدقت عليه الأوصاف والإشادات بإدارته الحكيمة والمسؤولية للأزمة والأوضاع، يتهم بارتكاب «خرق ميثاقي».
الرئيس نبيه بري الذي فاجأ الجميع بالوقوف الى جانب رئيس الجمهورية وخلفه في الأزمة الأخيرة بدعم لا تشوبه شائبة وأوحى بفتح صفحة جديدة وتجاوز خلافات وحساسيات الماضي، فاجأ الجميع مرة ثانية وفي غضون أسابيع بالانقضاض على مرسوم صادر عن رئيسي الجمهورية والحكومة ونشر أجواء التوتر والتصعيد والذهاب بعيدا في الموقف، الى درجة التلويح بأزمة حكومية.
وكان من الطبيعي أن يثير هذا الانفجار السياسي المفاجئ موجة من الذهول والاستغراب لأنه جاء من خارج السياق ومتعارضا مع أجواء الاتفاق والتعاون التي أنقذت البلاد من أزمة خطيرة.
المشكلة، موضوع الساعة، تفجرت مع توقيع رئيسي الجمهورية والحكومة على مرسوم منح أقدمية سنة لضباط دورة 1994 عرفت باسم «دورة عون».
هذا المرسوم جاء خاليا من توقيع وزير المال علي حسن خليل، وكانت للرئيس نبيه بري ازاءه ردة فعل قوية دفعت الى التريث وتجميد المرسوم الذي كان مقررا نشره أمس الأول.
لم تنفع كل التبريرات والتوضيحات الصادرة عن «مصادر رئاسية» وفيها أن الأقدمية المعطاة للضباط لا ترتب نفقات مالية ولا يحتاج مرسومها الى توقيع وزير المال، وأن الرئيس عون لم يقصد إقصاء وزير المال ولم يضمر توجيه أي إشارة سلبية للرئيس بري، وبادر الى توقيع مرسوم وصل إليه موقعا من رئيس الحكومة من دون توقيع وزير المال، مستندا الى حالات سابقة مماثلة.
ولم يتجاوب الرئيس بري مع الدعوات الصادرة عن قصر بعبدا بعدم تكبير المشكلة ووضعها في إطارها الصحيح والوثوق بعدم وجود أبعاد سياسية لها، ليصبح السؤال بقوة الآن: لماذا ذهب بري الى الحد الأقصى من التصعيد الى حد القول «ان هذا المرسوم يضرب الميثاق والقانون ويشكل مخالفة صريحة وجريمة بحق الجيش اللبناني»؟ وما لم يعلنه بري صراحة مررته أوساطه التي حذرت من أزمة أخطر من أزمة استقالة الحريري في حال لم تعالج الأزمة المستجدة وفق الأصول القانونية، والمشكلة ستكبر وستتخذ أشكالا تصعيدية مفتوحة على كل الاحتمالات، والآتي أعظم ما لم تتم إعادة تصويب المسار.
ولماذا يذهب بري الى هذا الحد في رد فعله، الى حد التلويح بأزمة حكومية بعدما كان ساهم في جهود مركزة لتطويق أزمة حكومية ببيان «لم يجف حبره بعد»، والى حد الإطاحة بإيجابيات «أزمة الاستقالة»، وتجاهل مرونة وتنازلات الوزير جبران باسيل في موضوع تطبيق قانون الانتخابات.
وفي ملف النفط (تلزيم البلوك رقم 9 في الجنوب). فإن يفعل بري ذلك يعني أن المسألة مطروحة حاليا على درجة من الأهمية والخطورة في نظره وتستأهل التحول الى لغة التحذير واللعب على حافة الهاوية.
يمكن القول ان ثلاثة أسباب رئيسة دفعت الرئيس بري الى اتخاذ هذا الموقف بسقف سياسي عال، وهي:
1 ـ التمسك بتوقيع وزير المال على كل المراسيم كتوقيع رابع ملزم ودائم، وعدم القبول بحصول «سابقة» صدور مرسوم خال من توقيع وزير المال.
ومن الواضح أن الرئيس بري أدرك أهمية وزارة المال بعد تجربة ناجحة مع الوزير علي حسن خليل في حكومتي تمام سلام وسعد الحريري.
فقد أعطته هذه الوزارة سلطة التدخل والتأثير في السلطة التنفيذية، وأعطت الطائفة الشيعية دورا تفتقده في هذه السلطة.
وكل مرة كان بري يشكو من تصرف مسيء في حقه أو متجاهلا لمصالحه ونفوذه، كان يلجأ الى «تحريك» وزارة المال واتخاذ إجراءات عقابية بعدم صرف الأموال كما حدث في موضوع تعيينات قوى الامن الداخلي قبل أشهر.
هذا الواقع يريد بري أن يكرسه ويصبح عرفا، والعرف في لبنان ونظامه الطائفي له قوة النص وأكثر.
وإذا كان بري تنازل عن وزارة المال للرئيس رفيق الحريري (بعدما كان اتفاق الطائف أعطاها عرفا للشيعة وأعطى الدروز موقعا افتراضيا هو رئاسة مجلس الشيوخ) ليتولاها الرئيس فؤاد السنيورة وبعده شخصيات مقربة منه مثل جهاد أزعور ومحمد شطح وريا الحسن، فإن بري مصمم على عدم التنازل عن وزارة المال مرة ثانية، وعدم التساهل في أي تعد على صلاحياتها.
2 ـ التوازن الدقيق في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وخصوصا في الجيش اللبناني وعلى مستوى الضباط الذين يعادلون في التصنيف الإداري مرتبة «وظائف الفئة الأولى»، والرئيس بري يتوقف عند الانتهاك الحاصل في التوازن الطائفي بفعل توزع المستفيدين من الأقدمية المعتمدة بين 180 ضابطا مسيحيا و14 ضابطا مسلما، يضاف الى ذلك ضرب مبدأ العدالة والمساواة بين الضباط مسلمين ومسيحيين على حد سواء، لأن المرسوم مجحف بحق الضباط من خريجي دورات ما بعد دورة 1994 كونه يمنح ضباط تلك الدورة أسبقية سنة على الآخرين، وبالتالي امتياز تولي المراكز القيادية.
3 ـ الثنائية الجديدة في الحكم التي زادتها الأزمة الأخيرة رسوخا، «ثنائية عون ـ الحريري» التي يتوجس منها بري ويحسب لها حسابا، هو الذي لا يريد أي شكل من أشكال العودة الى الجمهورية الأولى، ولا يريد لتحالف عون ـ الحريري أن تكون له قدرة وسلطة البت بالمشاريع والتعيينات والقرارات من دون التنسيق معه وبمعزل عنه.
الرئيس بري يفصل بين الواقع السياسي والواقع السلطوي، فإذا كان الرئيس عون هو أفضل الرؤساء استراتيجيا، وإذا كان بقاء الحريري ضرورة للاستقرار، فإن هذا لا يبرر الإخلال بقواعد اللعبة وبمعادلة الحكم ونشوء أرجحية لصالح هذه الثنائية، بحيث أن اتفاق الحريري وعون على أي أمر كاف لحصوله ولأن يصبح واقعا، وأن رفضهما لأي أمر كاف لإجهاضه ورفع سد منيع في وجهه.
ومن غير المستبعد أن يفكر بري في إقامة توازن حكومي جديد ومقابل ثنائية «المستقبل التيار الوطني الحر» تكون ثلاثية «أمل ـ الاشتراكي ـ القوات».
تقول أوساط عين التينة في تسريباتها حول المشكلة الجديدة ان الوزير علي حسن خليل أبلغ الحريري أن المرسوم سيُفجّر مشكلة كبرى في البلد إذا جرى فرضه كأمر واقع، وأن الحريري أوضح له أنه تعرض لضغط وإلحاح شديدين من الرئيس عون ما دفعه الى التوقيع على المرسوم.
وتذكر الأوساط بأن الحريري كان أكد قبل نحو 3 أشهر أن المرسوم موضع الخلاف لن يمر إلا على «قطع يده» لأن من شأنه «تخريب الجيش» وهو لن يوقع عليه.
قد يكون الرئيس عون وجد أن الوقت مناسب لتمرير هذا المرسوم في ظل أجواء سياسية مؤاتية ومثالية من الصعب أن يواجه فيها «ثنائي الحكم» اعتراضات من «الثنائي الشيعي»، وقد يكون الحريري أقدم على التوقيع من باب رد الجميل للرئيس عون على وقفته معه التي لا ينساها، ولكن حسابات حقل رئيسي الجمهورية والحكومة لم تتطابق مع حسابات بيدر رئيس المجلس مدعوما من حزب الله، فهل يتراجع عون والحريري ويجمدا المرسوم؟! وهل هناك من مخرج حل وسط برعاية وترتيب من حزب الله؟! وإذا لم يكن من تراجع ومن مخرج، هل يمضي بري قدما في التصعيد والى أين يمكن أن يصل؟!
(الانباء الكويتية)