لكنّ قصّة الدور الأميركي لم تنتهِ هنا مع كلام غلاسبي التّشجيعي، ذلك أنّ الجيش العراقي الذي ابتلعَ الكويت في غضون ساعات وقَف على أبواب المملكة العربية السعودية التي استَنجَدت بأصدقائها، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأميركية.
وفي هذه المرحلة حصلت مفاوضات صعبة بين إدارة الرئيس جورج بوش الأب والقيادة السعودية. كانت المدرسة الدينيّة السعودية تُعارض وجود أيّ جندي أجنبيّ غير مسلم على الأراضي السعودية، وكان أسامة بن لادن الذي أسَّس لاحقاً تنظيم «القاعدة» أحّد المتمسّكين بهذا المبدأ.
لكن سرعان ما جرى ابتكار الحلّ المطلوب. فتحت ضغط تلويح بغداد بأنّ اجتياح السعودية ليس مستبعداً، وافقت الرياض على انتشار الجيش الاميركي في أراضيها شرط أن ينسحب مع زوال خطر صدام حسين والذي يعني إسقاط نظامه.
ولأنّ الهدف الاميركي الفعلي هو الإمساك مباشرة بآبار النفط السعودية والكويتية، أوقفت القوات الأميركية هجومها عند الحدود الكويتية – العراقية، بحيث بقيَ شرط انسحابها الكامل من السعودية غير مكتمل وينتظر سقوط صدام حسين.
مناسبة هذا الكلام الآن، هو الصراع الدائر في سوريا حول مرحلة ما بعد «داعش» وترتيب التسوية، أو بالأحرى تَقاسم الجبنة في سوريا.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن انسحاب قواته من سوريا بعد إعلان النصر. صحيح أنّ هذا الانسحاب شمل أعداداً محدودة من قواته، لكنّ الرئيس الروسي أصاب عصفورين بحجره.
الأول استخدام خطوته في حملته الانتخابية على أساس أنه أنجَز المهمة في سوريا ولم يغرق في وحولها كما اتّهمه خصومه، وعاد من هناك ومعه انتصار كبير.
والثاني، أنه أبقى على وجوده القويّ من خلال قاعدة طرطوس البحريّة، وحميميم الجوية، من خلال اتفاقات موقّعة مع الدولة السورية التي كرَّست بقاءها مع انتهاء الحرب. وهذا ما لا تحظى به القوات الأميركية التي من المفترض أن تكون مهمّتها قد انتهت بعد هزيمة «داعش»، وبالتالي يُصبح موقفها الشرعي مشكوكاً فيه لعدم وجود اتفاقات ترعى ذلك مع الدولة السورية.
بالتأكيد لن تعمد واشنطن لسحب قوّاتها، لكنّ ذلك لن يحجب أنّ وجودها العسكري قابل للانتقاد كل يوم وكل ساعة. واشنطن ستبقى لكي تَحمي نفوذها في العراق ومصالحها النفطية الكبيرة، كما أيضاً النفط في سوريا ومشاريع إعادة الاعمار.
ولأنّ «داعش» سهّلت كثيراً على القوى والجيوش الأجنبيّة دخولها سوريا وتمركزها في أرجائها، فإنّ هنالك من يعتقد أنّ إعادة إحياء دور ما لـ«داعش» في مكان ما سيكون مفيداً جداً.
معركة إدلب بدأت، وهي معركة صعبة. ففي إدلب اكثر من عشرين الف مسلح تجمّعوا فيها بعدما هربوا من مناطق كثيرة، وبين هؤلاء تنظيمات مصنّفة بأنّها إرهابية. القوات السورية تتقدّم في اتجاه مطار أبو الضهور، وهي باتت على بعد 18 كلم من حرم المطار، على أن تتوجّه بعدها الى عمق إدلب.
والمشكلة هنا أنّ هذه المعركة ستأخذ بعض الوقت، وستكون مادة تجاذب بين جنيف وسوتشي، والأهمّ وجود احتمال بإنهاء الوضع عبر التفاوض والتسوية مع ما يعني ذلك حول مصير المجموعات الإرهابية الموجودة، واحتمال الاستعانة بخدماتها مجدداً في مكان آخر تماماً كما مصير فلول «داعش»، والتي هرَبت في اتجاه المناطق الكردية ليختفي أثرها بعد ذلك.
الأكيد أنّ القوات الأميركية، وأيضاً القوات الخاصة الفرنسية نجَحت في قتل الكوادر الاساسية، والتي كانت تُخطّط وتُشرف على العمليات الإرهابية النوعيّة في الخارج، ومن بينها الساحات الأوروبية والأميركية.
ومعظم هذه الكوادر من الجنسية العراقية. لذلك مثلاً تراجعت «نوعيّة» العمليات الارهابية كمثل اعتداء نيويورك الأخير في نفق للمشاة تحت «التايمز سكوير». فالإرهابيّ عملَ منفرداً وحمَل عبوة بدائية الصنع، ما يعني أنّه تحرّك عبر الانترنت ومن دون تدريب مسبق وتخطيط متقن، على رغم أنه نجح في الوصول الى منطقة مكتظّة.
هذا يعني أنّ أقسام العمليات الارهابية الخارجية ضُرب بقوة، ولكن هذا لا يعني نهاية وظيفة «داعش» أو المجموعات الإرهابية على اختلافها.
فالمجموعات القتالية لـ«داعش»، «اختفت» في شمال سوريا، لتظهر تقارير بدأت تتحدّث عن تجمّعات جديدة لهذا التنظيم عند حدود افغانستان الشمالية وفي آسيا الوسطى وخصوصاً بالقرب من الحدود الروسية. وهذه المجموعات مطعّمة بالإيغور أو المتطرّفين الذين قدموا من الصين وأثبتوا شراسة في المعارك التي خاضوها، اضافة الى عناصر شيشانية.
واشنطن تقول إنّ مهمّتها الجديدة في سوريا هي منع عودة الارهابيّين إليها، ما يعني أنّها تحتاج لمجموعات إرهابية ستُهدّد بالعودة الى سوريا لتضطلع معها القوات الاميركية بوظيفة جديدة.
والأهم أنّ هذه المجموعات، والتي تتحضَّر لإشعال الوضع في أفغانستان بدءاً من الربيع المقبل بذريعة الانتخابات الرئاسية الجاري التحضير لها، فإنّ هذه المجموعات ستتحرّك في اتجاه تهديد أمن روسيا ما سيجعل الأخيرة غير مرتاحة أو مطلقة اليدين في الشرق الأوسط نتيجة الضغط الداخلي فيها.
وهذا الواقع الجديد في أفغانستان سيشكّل بدوره عامل ضغط وتهديد على إيران، الدولة المجاورة لأفغانستان.
وبموازاة كل ذلك، ألا يجدر بنا التساؤل حول تمنّع «داعش» عن القيام بخطوات انتقامية داخل اسرائيل إنتقاماً للقدس؟ قيادة «داعش» تُبرّر ذلك بالقول إنّ أولية معركتها ليست مع اسرائيل بل مع الدول الاسلامية المجاورة التي تشكل حرس حدود لإسرائيل. أليس ذلك غريباً بعض الشيء؟
التنظيمات الإرهابية، ومن ضمنها «داعش»، تُعيد تنظيم قواها في افغانستان بعدما «نجَحَت» في الهرب من سوريا، في وقت تعلن واشنطن استراتيجية جديدة لمحاربة الإيديولوجيات المتطرّفة والتي وضعت إيران على رأس اللائحة. أليس هنالك من خيط خفيّ يربط بين كل هذه الأحداث؟
كلّ ذلك قد يعني مسألة واحدة، أنّ حرباً أخرى أوشكت على الانطلاق عقب انتهاء الحرب على «داعش» في سوريا.
لكلّ من هاتين الحربين، أهداف ووظائف. ففيما تحقّقت معظم أهداف الحرب الأولى، فإنّ استكمالاً لهذه الأحداث ستشهده الحرب الثانية، ولو أنّ شكلها سيكون مختلفاً عن شكل الأولى وساحاتها ستتبدّل… لنأخذ من عِبَر حرب الخليج الأولى.