لم يكن جفّ حبر إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أمس عودته عن استقالته استناداً إلى «قرار» من الحكومة «بكل مكّوناتها» بالنأي بنفسها عن أي صراعات ونزاعات وحروب وعن الشؤون الداخلية للدول العربية، حتى اتّجهتْ الأنظار سريعاً الى وقْع هذا المَخْرج في السعودية التي كانت الاستقالة التي أعلنها الحريري من الرياض جاءت على وهج المواجهة المتعاظمة بينها وبين طهران، وتصاعُد «الغضبة» حيال أدوار «حزب الله» العسكرية والأمنية في الساحات العربية، ولا سيما اليمن.
وفي انتظار اتضاح الموقف السعودي الذي كانت آخر تجلياته في قول ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قبل 12 يوماً «خلاصة القضية ان الحريري، المسلم السني، لن يستمرّ في توفير الغطاء السياسي لحكومةٍ لبنانية تتحكّم بها في شكل أساسي ميليشيا(حزب الله)التي تتحكّم بها طهران»، انهمكتْ بيروت في عملية «تدقيق لغوي» ذات بُعد سياسي في الصيغة التي اعتمدها مجلس الوزراء لطيّ صفحة أزمة الاستقالة التي كانت فُتحت قبل شهر حين قدّمها الحريري في خطاب متلفز في 4 نوفمبر الماضي (من الرياض)، ليعود في 22 من الشهر نفسه ليعلن التريث فيها غداة عودته الى بيروت.
والأكيد أن البيان – القرار الذي تلاه الحريري بعد الجلسة الاستثنائية التي دعا اليها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالتوافق مع رئيس الوزراء والذي تعود معه حكومة «استعادة الثقة» إلى «الحياة» تحت سقف التسوية السياسية التي كانت أنهت الفراغ الرئاسي نهاية أكتوبر 2016، جاء بمنزلة أقلّ من «بيان وزاري جديد» وأكثر من مجرّد بيان سياسي للحكومة، وسط تَعمُّد رئيسها «الخروج عن النص» ليؤكد أن ما يُدْلي به هو «قرار» صادر عن مجلس الوزراء في إشارة الى طابعه الالزامي.
وفي قراءة لحسابات الربح والخسارة في هذا المَخْرج، ترى أوساط سياسية أنه رغم حرص «حزب الله» على اعتبار أن سَيْره به يشكّل امتداداً لموافقته على البيان الوزاري الذي نالت هذه الحكومة على أساسه الثقة في إشارةٍ ضمنية إلى أن الصيغة التي اعتُمدت لم تتضمّن جديداً، فإن قرار النأي بالنفس في ذاته عنصرٌ لم يكن موجوداً في البيان الوزاري وإدراجه من ضمن مناخ اجماعي معطوف على تأكيد ضرورة حفظ علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع الدول العربية يعكس استشعار «حزب الله» بضرورة تقديم ورقة للبنان الرسمي تتيح له احتواء المناخ العربي التصعيدي حياله.
على أن هذه الأوساط تَعتبر أن ما قدّمه «حزب الله» الذي أحبط إدراج بند وقف الحملات الإعلامية على الدول العربية في «بروتوكول العودة عن الاستقالة»، قام بتراجُع تكتيكي لضمان الإبقاء على الحكومة وتَماسُكها كخطّ دفاع عنه بوجه الضغوط الخارجية عليه سواء التي «ستهبّ حتماً» من بوابة العقوبات الأميركية أو التي قد تكون على الطريق سعودياً وعربياً بحال لم تحصل ترجمةٌ للمَخرج الذي جرى اعتماده لإنهاء الأزمة الاستقالة.
ولاحظتْ الأوساط نفسها في هذا السياق أن عبارة «التزام الحكومة، بكل مكوّناتها السياسية، النأي بنفسها عن أي نزاعات أو صراعات أو حروب»، ورغم اعتبار خصوم «حزب الله» أنها مكسب كبير، إلا أنها تبقى «حمّالة أوجه» إذ يمكن تفسيرها على أنها إلزام للبنان الرسمي بالنأي بنفسه، في حين أن السؤال الكبير هل من «ملحقات سرية» لهذا البيان على شكل ضمانات وفّرتها فرنسا عبر حركتها المكوكية التي شملت بيروت وطهران والرياض بأن ينأى «حزب الله» بالفعل عن صراعات المنطقة؟
وكان الحريري تلا بيان العودة عن الاستقالة الذي أعلن فيه أن مجلس الوزراء أكد بإجماع مكوناته السياسية «التزام البيان الوزاري قولاً وفعلاً»، وخصوصاً الفقرة التي تشير الى التزام خطاب القسَم للرئيس عون حول ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية، موضحاً ان الحكومة «ستواصل تعزيز العلاقات مع الدول الشقيقة وتؤكد احترامها المواثيق الدولية كافة والتزامها القرار 1701».
وبصيغة «القرار»، شدد على «التزام الحكومة بكل مكوناتها السياسية النأي بنفسها عن أي نزاعات أو صراعات أو حروب أو عن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظاً على علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع اشقائه العرب»، مؤكداً التمسك باتفاق الطائف وان «لبنان عربي الهوية والانتماء…»، وموضحاً انه «بناء على ذلك، نتطلّع الى افضل العلاقات مع الاشقاء العرب… وفي النهاية، يشكر مجلس الوزراء رئيسه على موقفه وعلى عودته عن الاستقالة».
وجاء هذا البيان في أعقاب جلسة مجلس الوزراء التي أعلن قبيل منتصف ليل الاثنين – الثلاثاء عن الدعوة الى انعقادها والتي شهدت مداخلتين لكل من رئيسيْ الجمهورية والحكومة. وقد أكد عون بعد عرْضه المراحل التي قطعتها الأزمة منذ استقالة الحريري «ان موقفنا انطلق من عدم قبولنا بأن تمس أي سلطة في العالم كرامتنا»، قبل ان يتحدّث الحريري شاكراً الرئيس اللبناني «على إدارته الحكيمة للأزمة».
وقال الحريري: «ما قمنا به حتى اليوم، كان قمة في المسؤولية… وأهم ما فيه أننا رفضنا الانجرار خلف دعوات ليس لها وظيفة إلا استدراج الفوضى للبنان. أنا رئيس مجلس وزراء لبنان واليوم هناك حكم إعدام بحقي في سورية، و(حزب الله) مصنف إرهابياً في دول الخليج»، داعياً الى «تجنيب البلد الدخول بصراعات المنطقة وحفظ استقرارنا. لكن هذا لا يعفينا من أن نرى المشكلة القائمة وملاحظات عدد من الدول الشقيقة خصصاً دول الخليج التي وجهت لنا رسائل واضحة حول التدخل بشؤونها الداخلية. وهذه المشكلة لا يجوز أن تستمرّ». وأضاف: «التهجم على دول الخليج في الاعلام والسياسة يهدد مصالح لبنان وبات لزاماً علينا أن نضع يدنا على الموضوع ونتخد قراراً نعلن فيه النأي بالنفس قولاً وفعلاً. أي يجب أن نقتنع بأن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج له انعكاسات خطيرة على أوضاعنا ومصالحنا. وإذا كنا نرفض أن تتدخل أي دولة بشؤون لبنان فلا يجوز أن نقبل أن يتدخل أي طرف لبناني بشؤون الدول العربية، وخصوصاً دول الخليج العربي. مصلحتنا أن نحمي علاقاتنا التاريخية مع السعودية وكل الخليج، وألا نعطي أي ذريعة للمصطادين بالماء العكر لجر لبنان الى الفوضى».
وأكد «اننا في مجال توجيه رسالة للاشقاء العرب بأن لبنان ليس في موقع التخريب على علاقاته العربية ولا في موقع توجيه الأذى لأي دولة عربية».
(الراي)