محمد علي فرحات:
بدأت أمس الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل نحو سلام سورية، فقد اجتمعت المعارضة في الرياض للتداول في تأليف وفد موحد يمثلها في أي مفاوضات مقبلة، وفي اليوم ذاته قمة روسية- تركية- إيرانية في سوتشي لتقويم مسار آستانة لخفض التصعيد والتوصل إلى موقف مشترك من محادثات جنيف المقبلة التي يتفاءل فلاديمير بوتين بتوصلها إلى حل نهائي.
وفي مكان آخر، حقق المرشد علي خامنئي انتصاراً على قوى سياسية داخل النظام الإيراني كانت ترفض التدخل العسكري في العراق وسورية ضد «داعش» و «النصرة»، لكن الاحتفالات التي أقامها ومناصريه تَنسب إليه وحده الضربات التي تلقاها «داعش»، وفي حين تذكر على استحياء دور الطيران الروسي، تهمل دور التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وتصل إلى اتهام واشنطن بحماية «داعش» أو عرقلة هزيمته.
وإذا كانت للعراق حكومة تحصد هزائم التنظيم الإرهابي، فإن سورية قائمة في الفراغ، تستوي في ذلك المناطق التي يحكمها النظام وحلفاؤه وتلك التي يتوزع حكمَها الأتراك والأميركيون والأكراد ومجموعات متنازعة ترفع شعارات إسلامية.
سورية الباقية دولة واحدة برغبة أبنائها المخلصين، ولكن أولاً بتوافق كبار الإقليم والعالم، هي مجتمع أو مجتمعات تعي تعددها الديني والطائفي والعرقي، على رغم تعميمات البعث العروبية المتصلبة ورد الفعل من إسلاميين متصلبين، لذلك وصلت بعد عسكرة المعارضة واستيلاء «القاعدة» ثم «داعش» على معظم «الجيش الحر»، إلى حال من الفراغ. وإذا كان الشعب السوري ارتاح من وطأة «داعش» وجرائمه الغرائبية وإنكاره التراث بوجوهه التاريخية والطقسية والفولكلورية، فلن يجد راحته بالتأكيد في شعارات «حزب الله» و «الفاطميين» و «الزينبيين» الذين تفتخر إيران بمساهمتهم في هزيمة «داعش»، ولن يجد راحته أيضاً في تسيّد النظام على مناطق سورية مجدداً. راحة الشعب السوري أن يستعيد معناه الثقافي والاجتماعي والإنساني لا أن يستبدل فراغاً بآخر من نوعه.
من هنا اتفاق القوى الإقليمية والدولية التي تنازعت في خلفية الحروب السورية، على أن هذا البلد إذا كان مقدراً أن تحكمه دولته الواحدة، فهذه الدولة بالضرورة علمانية، والمقصود دولة قانون واحد لشعب واحد تقف على مسافة واحدة من الجماعات العرقية والدينية والطائفية، وتحترم الخلفيات الثقافية لهذا الشعب الذي تختزن ذاكرته الجماعية حضارات عريقة.
دولة هذه صفاتها الواجبة لحكم سورية لا تشبه النظام المنكفئ على عسكرة أواسط القرن العشرين، ولا تشبه المعارضات العسكرية الشعبوية الحاملة أيديولوجيات الكراهية ورفض الآخر. ولأن هذه الدولة لم تتحقق، فإن ما يلمسه السوريون ويدركه العالم هو أن سورية في حال فراغ.
خطوة أولى في مسيرة الألف ميل لملء الفراغ في سورية بسلامٍ يحمل ملامح أهلها، ورغبة محيطها والدول الكبرى في بلد متعدد مفتوح على دول ذات حضارات متعددة.
وللاستدراك على جهود توحيد المعارضة وقمة سوتشي، لا بد من موافقة الولايات المتحدة على مسار السلام السوري، فلها، فضلاً عن نفوذها في العالم والإقليم، وجود عسكري على الأرض وحلفاء معلنون وغير معلنين، كما لا بد من قبول عربي بصورة سورية المستقبل، فلا تكون كياناً قلقاً تتجاذبه إيران وتركيا، خصوصاً إذا تذكرنا إجماع الاستراتيجيين على أن استقرار سورية علامة استقرار العرب، والعكس صحيح.
وللمعارضين السوريين الذين ابتعدوا من اجتماع الرياض، سواء بالاستقالة أو بتوقيع العرائض، أن يرسلوا إلى الرياض وموسكو وواشنطن تصورهم لسورية المستقبل، علّ في ذلك فائدة تتجاوز الحزن والغضب وتدخل في صلب السياسة.
خطوة أولى في رحلة الألف ميل. ثمة ظلال كثيرة في أول الطريق قد تؤدي إلى تيه السالكين. سورية تستحق سلاماً بالسياسة الصعبة لا بالقتل والخراب، وما أهونهما لدى ضيّقي الأفق، إن لم نقل المجرمين.