جوني منير:
في الأمس بدا أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون اتّخذ قرارَه برفع مستوى اللهجة الرسمية اللبنانية من خلال اتّهام السعودية صراحة باحتجاز الحريري وعائلته، في الوقت الذي كان وزير الخارجية جبران باسيل يجول على عواصم أوروبيّة لمَس خلالها تفهّماً، لا بل تعاطفاً، مع موقف لبنان، وأدّى الى إيفاد باريس وزير خارجيتها الى السعودية للقاء الحريري، بعدما كان التقاه السفيرُ الفرنسي في السعودية في وقت سابق.
ولم يعد سرّاً أنّ التقرير الذي رفعه السفيرُ الفرنسي الى رؤسائه تضمَّن وجودَ علامات استفهام كثيرة حول ظروف الإقامة غير الطبيعية للحريري، ووجود سيارات مراقبة عند المدخل، إضافة الى أشخاص مدنيين مجهولين لازموه طوال وقت الزيارة.
الحريري نفسُه عمَد الى إرسال الاشارات التي تؤكّد احتجازَه، ولو بالحدّ الأدنى القادر من خلاله الإيحاء. فمثلاً غرّد الحريري خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية مرّتين عبر حسابه على «تويتر»، فيما تعمّد البقاءَ صامتاً في السابق رافضاً تأكيدَ استقالته أو الدفاع عن وجهة النظر هذه. فيما كانت عائلتُه في بيروت تتولّى رعاية المواقف السياسية الناعمة من خلال التوجيهات المباشرة لنادر الحريري لكتلة تيار «المستقبل»، وتستمرّ في تواصلها مع رئيس الجمهورية، مع الإشارة الى كلام الحريري الودّي لعون خلال مقابلته التلفزيونية.
وكان البيان الصادر عن كتلة «المستقبل» حول أنها هي فقط المخوّلة إعلان الموقف الرسمي للحريري كافياً للإشارة الى وجود توجيهَين لدى الفريق المحسوب عليه. احدهما مواقفه ناعمة ومقصودة وهو يتناغم مع رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، والآخر يوصف بـ«الفريق السعودي» ويُعبّر عن المواقف العالية السقف والمنتقدة لعون.
وفي توصيف أكثرَ دقة فإنّ الفريق الاول يُعبّر عمّا يجول في رأس الحريري، فيما الفريق الثاني يترجم الكلمات التي يتلفّظ بها الحريري من السعودية.
لكن رغم كل ذلك، فإنّ الحريري سيعود قريباً الى لبنان وسيزور قصر بعبدا لتقديم استقالته رسمياً، إلّا في حالة واحدة اذا ما قرَّر قطع كل روابطه مع السعودية، وهذا احتمال يكاد يوازي الصفر.
إذاً من المفترض أن يعود الحريري لوحده من دون عائلته بعدما ماطل لأكبر وقت ممكن، ليأتيَ دورُ رئيس الجمهورية في المماطلة قبل قبول هذه الاستقالة. سيعود الحريري وهو يحمل برنامجَ عمل جديداً يقوم على اساس مواجهة «حزب الله» ولكن من دون التصادم معه، وهو ما تمسّك به خلال مفاوضاته ونقاشاته مع المسؤولين السعوديين.
ويتردّد أكثر من ذلك في الأوساط الديبلوماسية أنّ هذه النقاشات طاولت ضرورة تجديد فريق عمل الحريري، وهو ما يتقاطع مع تغريدة الوزير السعودي ثامر السبهان حول «الشخص الذي باع اللبنانيين ويحرّض علينا الآن»، مضيفاً بأنه سيكشف قريباً هذا الشخص.
إذاً سيقدّم الحريري استقالتَه إلى عون وسيعرض عليه برنامجه الجديد والذي يقوم على أساس تبديل سياسته من التعايش مع «حزب الله» الى مواجهة «حزب الله»، ولكن من دون التصادم معه.
وهو ما يعني أنه لن يقبل بترؤُس حكومة أخرى تضمّ «حزب الله» من دون إعلان التزام الحزب الخروج من أزمات المنطقة، وفي طليعتها أزمة اليمن، إضافة الى المستلزمات حول هذا الامر.
في المقابل، يستعدّ «حزب الله» لتحديد طريقة تعاطيه مع هذه اللحظة. وخلال التداولات التي حصلت مع قيادة الحزب في الكواليس، تحدّث مسؤولون كبار عن أن لا علاقة لـ«حزب الله» بكل هذه الأزمة، فهو في الأساس لم يكن طرفاً مباشراً في التسوية السياسية لكي يُقال لاحقاً إنّه نقضها، أو لدعوته إلى التزامها، فما حصل يومها أنّ التسوية حصلت بين العماد ميشال عون وسعد الحريري عبر جبران باسيل ونادر الحريري، وصحيح أنّ «حزب الله» اطّلع على بنود التسوية، لكنه لم يكن مشارِكاً في وضع البنود.
والاطّلاع لا يعني بالضرورة المشارَكة. وهذا يعني ضمناً أنّ «حزب الله» لن يعلن أيَّ التزام حيال مشاركته في النزاعات الحاصلة في المنطقة، وتحديداً في اليمن، والتي كان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله قد اعتبر المشارَكة فيها في أحد خطاباته التزاماً أخلاقياً ودينياً.
ووفق هذا الواقع، فإنّ إعادة تكليف الحريري ستعني أزمة حكومية مفتوحة في ظلّ استحالة تأليف حكومة من دون تمثيل «حزب الله» لأسباب عدة أبرزها على الإطلاق موقف رئيس الجمهورية.
ووفق ذلك، فإنّ السيناريو الأكثر رجحاناً هو تكليف شخصية سنّية أخرى تسعى لتشكيل حكومة بمشاركة «حزب الله». وفي حين جرت اتصالاتٌ منذ الآن لتأمين موافقة مسبَقة لشخصيات سنّية وهو ما حصل، يبدو «حزب الله» واثقاً من تأمين غالبية نيابية للشخصية السنّية، وسيُفتح الباب امام كلّ القوى والأحزاب للمشارَكة في الحكومة بما فيها تيار «المستقبل».
إلّا أنّ الترجيحات المسبَقة تؤشّر الى اعتذار البعض، ما سيجعل من هذه الحكومة أقرب الى حكومة اللون الواحد، وهو ما قد يؤدّي الى عدم حصولها على الغالبية النيابية لنيلها الثقة. لكنّ ذلك سيسمح لهؤلاء الوزراء بتولّي وزاراتهم وتصريف الأعمال في انتظار ولادة حكومة أخرى لن تكون متوافرة في أمد قريب.
وفي هذا الوقت، سترتفع الحماوةُ السياسية الداخلية في موازاة تصعيد إقليمي، ويتردّد أنّ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تستعد لإصدار قراراتها مطلع السنة المقبلة، في موازاة عقوبات مالية أميركية والتي تهدف بنحوٍ أساسي لإعادة ترتيب الساحة السورية وتحديد أوزان وحجم القوى والنفوذ لمرحلة ما بعد الحرب.
وقيل أيضاً إنّ السعودية ستشارك في بعض هذه العقوبات كمثل تخيير الشركات بين السوق اللبناني أو الأسواق الخليجية.
وكل هذا التصعيد لن يكون محصوراً بالساحة اللبنانية، بل سيكون مفتوحاً على الساحة الإقليمية، خصوصاً أنّ أسبابه أبعد بكثير من لبنان.
فخلال الأيام الاخيرة، بدأت الديبلوماسية الأميركية تتحدّث عن تحضيرات يُجريها البيت الابيض للانتقال الى مرحلة جديدة تقوم على أساس خطة سلام للشرق الاوسط. وهذه الخطة التي سيبدأ تنفيذُها مع مطلع السنة المقبلة مبدئياً ستكون ركيزتَها الساحتان الفلسطينية والإسرائيلية ولكنها ستشمل عدداً من الدول.
دينس روس، المفاوض الاميركي العتيق والخبير في ملف النزاع العربي ـ الإسرائيلي، قال أخيراً إنّ فريق الرئيس دونالد ترامب «يتّخذ خطواتٍ جدّية في المنطقة، وهو يقوم بعمل جيد جداً».
أن يصدر هذا الكلام عن روس الديموقراطي الهوى والمعارض لترامب في الاساس، فهذا يؤشر الى كثير. قال روس ايضاً إنه إذا استُؤنِفت المحادثات من دون أن يرافق ذلك أيُّ شيء ملموس، فإنّ أحداً لن يأخذ ذلك على محمل الجد، وهو ما تَعيه إدارة ترامب وتعمل على اساسه.
في غزة حصل كثيراً، وجرى تكبيل حركة «حماس» برعاية مباشرة والتزام مصري، ولذلك انطلقت إسرائيل في ضغطها على حركة «الجهاد الاسلامي»، مرّة بتفجير نفق لها واغتيال كبار مسؤوليها، ومرة أخرى باعتقال كوادر اساسية، في وقت تبدو «حماس» عاجزة عن الحركة و«الجهاد الإسلامي» مكشوفة الرأس وخياراتها محدودة. وهو ما يعني ضرب الجهات الفلسطينية المعارضة للتسوية السلمية.
لكنّ الأهم أنّ بعض دول الخليج ملتزمة فتح أجوائها امام الطيران الإسرائيلي ومنح تأشيرات دخول لرجال اعمال إسرائيليين، وبالعكس أيضاً وخطوات اخرى. وهذا سيعني رفع مستوى المواجهة مع إيران ومع «حزب الله»، وهو ما يستوجب سلفاً الضغط عليهما لشلّ حركتهما الاعتراضية. ومن هذه الزاوية فقط يجب قراءة التصعيد الذي ينتظر لبنان، والأزمة الحكومية التي ستدور حولها نزاعات قوية.